فيه تلك المسافات ، بل هو لاتّصال الأرواح بمبدإ واحد مجتمعة في موضع يعدّها للإحساس.
وحيث تحقّقت ما تلوناه عليك ، فاعلم أنّ الصّادر عن الحسّ المشترك التي هي قوّة واحدة بالقصد الأوّل ، إنّما هو فعل واحد هو استثبات الصّور المادّيّة ، ثمّ تصير مستثبتة للألوان والأصوات والطّعوم وغيرها بقصد ثان ، وذلك لانقسام تلك الصّور إليها ، وهذا كالإبصار الذي فعله إدراك اللّون.
ثمّ إنّه يصير مدركا للضدّين ، كالسّواد والبياض ، لكون اللّون مشتملا عليهما ، وذلك لانقسام تلك الصّور إليهما ، والشيء الواحد يمكن أن يصدر عنه الكثير إذا كان الصّادر بالقصد الأوّل شيئا واحدا ثمّ يتكثّر بقصد ثان ، كما في الصّورتين المذكورتين ، كما أنّه يمكن صدور الكثير عنه إذا كانت وجوه الصّدورات مختلفة متكثّرة ، كما في أفعال النّفس.
وعلى هذا ، فلا يرد أنّ الحسّ المشترك مع كونها قوّة واحدة كيف يصدر عنها الكثير؟ والله أعلم بحقيقة الحال.
في الدليل على وجود الحسّ المشترك
ثمّ إنّ قول الشّيخ : «فإنّه لو لم تكن قوّة واحدة تدرك المكوّن والملموس ، لما كان لنا أن نميّز بينهما قائلين إنّه ليس هذا ذاك» ـ إلى آخر ما ذكره ـ دليل على إثبات الحسّ المشترك.
وبيانه : قد إنّا نميّز بين المحسوسات الظّاهرة ، ونحكم ببعضها على بعض ، سواء كان حكما سلبيّا ، كما نحكم أنّ هذا الملوّن ليس هذا الملموس ، أو حكما إيجابيّا ، كما نحكم بأنّ هذا الأحمر حلو ، ولو لم يكن لنا قوّة تجتمع فيها صور المحسوسات ، لما كان لنا أن نميّز بينها ونحكم ، لأنّ الحاكم المميّز بين الشيئين يحتاج إلى إدراكه لهما وحصولهما عنده واجتماعهما لديه ، إمّا في ذاته ، أو في غيره. ومحال أن يكون حصول هذين الأمرين في حسّ من الحواسّ الظّاهرة ، لأنّه لا يدرك غير نوع واحد من المحسوسات كما