سلف. سلّمنا أنّ هذا التّمييز هو للعقل ، أي للنّفس بذاتها إلّا أنّه يجب لا محالة أنّ العقل يجدهما معا حتّى يميّز بينهما ويحكم ، وذلك أيضا محال ، لأنّ المحسوسات من حيث هي محسوسة ، وعلى النحو المتأدّي من المحسوس ، لا يدركها العقل ، لما سنوضّح من بعد ، فمحال أن يكون حصول ذلك في العقل أيضا. فإذن لا بدّ من قوّة أخرى غير الحسّ الظّاهر يجتمع فيها صور المحسوسات بالتأدّي إليها من طرق الحواسّ ، حيث إنّها كجواسيس لهذه القوّة ، تؤدّي مدركاتها إليها ، فيجتمع تلك المدركات فيها ، ولذلك سمّيت بالحسّ المشترك وهو المطلوب.
وفي قوله : «وذلك لأنّها من حيث هي محسوسة ، وعلى النحو المتأدّي من المحسوس لا يدركها العقل» إيماء إلى دفع إيراد ربّما يمكن أن يورد هاهنا.
بيان إيراد مع دفعه
بيان الإيراد : أنّ الحاكم والمميّز بالحقيقة ليس إلّا العقل ، وإسناد الحكم والتمييز إلى القوّة مجاز ، واجتماع الأشياء عند النّفس حال حكمها عليها وبها قد يكون بارتسامها كلّها في ذاتها أو في قواها العقليّة ، كما إذا حكمت بين المعقولات وميّزت بينها ، وقد يكون بارتسام بعضها في ذاتها أو في قواها العقليّة وارتسام بعض آخر في آلاتها وقواها الجسمانيّة ، كما إذا حكمت مثلا على زيد بأنّه إنسان ، وعلى هذا الحجر بأنّه ليس بإنسان ، وميّزت بينهما ، وقد يكون بارتسامها في آلتين وقوّتين جسمانيّتين لها ، كما إذا حكمت ـ مثلا ـ على هذا اللّون بأنّه غير هذا الطّعم ، وعلى هذا الأحمر بأنّه حلو ، وميّزت بينهما ، وحينئذ فلا حاجة إلى قوّة أخرى يجتمع فيها صور المحسوسات. بل إنّ تلك الصّور المحسوسة إنّما هي في قواها المختصّة بها ، وهي حاضرة عند النّفس ، لكونها حاصلة في آلات النّفس التي علم النفس بها علم حضوريّ ، وبذلك تحكم بينها وتميّز بينها.
وأمّا بيان الدفع لهذا الإيراد ، فهو مبنيّ على مقدّمة ، أحال وضوحها على ما ذكره من كلماته من بعد ذلك ، وسبقت أيضا الإشارة منه إليها في بعض كلماته المتقدّمة على ذلك ،