وأقول : وتحرير ما ذكره من الدليل على هذا المطلب أنّ النّفس الإنسانيّة لا يجوز أن تكون موجودة قبل الأبدان ، لأنّها لو كانت موجودة قبل الأبدان ، فإمّا أن تكون متكثّرة بالعدد ، أو واحدة بالعدد ، وكلّ منهما باطل.
أمّا الأوّل ، فلأنّها إذا كانت موجودة قبل الأبدان وجودا مفردا ، وكانت متكثّرة بالعدد ، فتكثّرها لا يكون إلّا بأن تكون ممتازة بعضها عن بعض ، فامتيازها إمّا أن يكون بصورها وماهيّاتها ، أو بفاعلها ، أو بغايتها ، أو من جهة النسبة إلى موادّها المنطبعة هي فيها المتكثّرة ممّا تتكثّر به من الأمكنة التي تشتمل على كلّ مادّة في جهة ، والأزمنة التي تختصّ بكلّ واحدة منها في حدوثه ، والعلل القاسمة إيّاها ، أو بما في حكم تلك الموادّ من القوابل والمنفعلات عنها كالأبدان ، والعلل منحصرة في هذه ، ولا يجوز أن يكون امتيازها بصورها وماهيّاتها وذواتها ، لأنّ النفوس الإنسانيّة متّفقة في النوع والمعنى ، وما له حدّ نوعيّ فصورتها وذاتها واحدة لا اختلاف فيها ولا تكثّر من حيث الماهيّة والذات ، وكذلك لا يجوز أن يكون امتيازها بفاعلها أو بغايتها ، لأنّ فاعلها واحد وهو المبدأ الفيّاض تعالى شأنه. وكذا غايتها ، وهي التشبّه بالفاعل والاتّصال به والقرب إليه. فبقي أن يكون امتيازها بموادّها المنطبعة هي فيه ، أو بما هو في حكمها كالأبدان ، وهذا أيضا باطل ، لأنّ النفوس الإنسانيّة قد فرضت مفارقة عن الموادّ ، أمّا عن المنطبعة فيها ، فلأنّ المفروض تجرّدها عن المادّة في ذاتها ، كما ظهر من الدلائل الدالّة على تجرّدها ، وأمّا عمّا في حكمها ، فلأنّ المفروض وجودها قبل الأبدان وجودا مفردا ، هذا خلف.
ومن هذا يظهر أنّ المجرّدات عن المادّة إذا كانت متكثّرة بالعدد ، فإنّما يكون تكثّرها بأن يكون كلّ منها نوعا على حدة منحصرة في فرد ، لا أن تكون تلك الأفراد المتكثّرة أفرادا من نوع واحد ، ولذلك قالوا به في العقول التي أثبتوها.
وهذا الذي ذكرنا هو محصّل مرامه ، وإنّما لم يشر إلى إبطال كون امتياز تلك النفوس بفاعلها أو بغايتها إحالة على الظّهور ، كما إنّه لم يذكر دليلا على كون النفوس الإنسانيّة متّفقة في النوع والمعنى ، إحالة عليه أيضا.
وربما ينبّه على ذلك ، بأنّه كما أنّ الحكم بأنّ بعض الأشياء ـ كالإنسان والفرس