الغاية فوق اللطافة التي هي للأجسام الكائنة في الدنيا عنصريّاتها وفلكيّاتها ، قريبة من اللطافة التي للعقليّات ، كأنّها في أفق العالم العقليّ.
أو أنّ موجودات عالم الآخرة بأسرها لمّا كانت باقية غير داثرة ، وإن كانت جسمانيّة أيضا كبقاء الأمور العقليّة والمجرّدات عن المادّة ، ولم يكن للجسمانيّات منها مادّة قابلة للتغيّر والزوال والكون والفساد ، وكمادة الجسمانيّات في الدنيا ، حيث إنّها قابلة للفناء ، كان عالم الآخرة عالما عقليّا ، حيث إنّ العقليّات منها غير قابلة للفناء وكذا الجسمانيّات ، بخلاف عالم الدنيا ، حيث إنّ الجسمانيّات منها قابلة لذلك. والله تعالى أعلم بحقيقة الحال.
في أن القول بالأجساد المثاليّة في النشأة البرزخيّة ممّا لا مانع منه من
جهة النقل والعقل ، بل إنّه ممّا يؤيّده العقل
ثمّ إنّك إذا تحقّقت ما بيّناه وفصّلناه ، وتبيّنت أنّ الشرع الشريف القويم يدلّ على انتقال الأرواح بعد الموت إلى الأجساد المثاليّة التي عرفت صفاتها وحالاتها ، فاعلم أنّ القول به ممّا لا مانع عنه مطلقا ، لا من جهة الشرع ولا من جهة العقل ، بل إنّ العقل ربّما يؤيّده.
أمّا بيان التأييد ، فحيث ظهر ممّا أسلفنا لك أنّ النفس الإنسانيّة لمّا كانت بدنيّة في أفعالها ، محتاجة إلى الآلات البدنيّة في إدراكاتها الجزئيّة ، التي لا ينفكّ عنها في حال من الأحوال ، فتحتاج البتّة بعد المفارقة أيضا إلى بدن ما تتعلّق هي به وتتصرّف فيه تصرّف التدبير ، وتجعله آلة لأفعالها وإدراكاتها ، وظاهر أنّ ذلك البدن ليس هو البدن الأوّل العنصريّ ، لكون المفروض مفارقتها عنه ولم يعد بعد ، ولا بدنا آخر جسمانيّا عنصريّا أو فلكيّا ، لما ظهر من بطلانه ، ولا أمرا عقليّا لبطلانه أيضا كما سبق ، فلا بدّ أن يكون بدنا آخر من جنس عالم آخر متوسّط بين التجسّم الماديّ والتجرّد العقليّ ، أي البدن البرزخيّ المثاليّ ، وفيه المطلوب.