وأمّا أن يكون بتكثّر تلك النّفس الواحدة وتجزّيها وانقسامها إلى تلك النفوس المتعدّدة ، فهذا أيضا باطل ، لأنّ ذلك إنّما هو من خواصّ ما له عظم وحجم ومقدار ومادّة يحلّ هو فيها ، تقبل تلك المادة الانقسام إلى الأقسام ، كما تقرّر في الأصول المتقرّرة في الطبيعيات وغيرها ، فما ليس كذلك كالنّفس ، حيث لا يكون له مقدار وعظم وحجم ومادّة تنطبع هي فيها يمتنع فيها ذلك ، ولذلك قالوا : إنّ العقول حيث لا يكون لها مادّة منطبعة هي فيها لا يمكن تجزّيها وانقسامها ، وكذلك النّفوس المنطبعة الفلكيّة والكواكبيّة ، لأنّها وإن كانت لها مادّة منطبعة هي فيها ؛ إلّا أن تلك الموادّ لمّا لم تكن قابلة للانقسام والتجزّي ، امتنع التكثّر فيها ، بل كان نوعها منحصرا في فرد.
وهذا الذي ذكرنا هو محصّل تحرير كلامه في الدّليل على هذا المطلب ، مع زوائد ومزايا.
وقوله : «ونقول بعبارة أخرى : إنّ هذه الأنفس إنّما تتشخّص نفسا واحدة» الخ.
هذا بظاهره وإن كان دليلا آخر بعبارة أخرى على إبطال كون النّفس موجودة قبل البدن وواحدة ، لكنّه في التحقيق دليل آخر بعبارة اخرى على إبطال كونها موجودة قبل البدن مطلقا واحدة كانت أم متكثّرة ، وحاصله أنّا نعلم بالضرورة أنّ تشخّص النّفوس البشريّة وحصولها نفسا واحدة متشخّصة من جملة نوعها ، إنّما هو بأحوال تلحقها ، وأنّ تلك الأحوال ليست لازمة لذات النّفس بما هي نفس ومعنى واحد نوعيّ ، وإلّا لاشتركت فيها جميعا وكان لجميعها تشخّص واحد ، فلم تكن متكثّرة اصلا ؛ هذا خلف. بل إنّما هي تلحقها من جهة البدن من الهيئات والمناسبات التي لها بالنسبة إلى البدن ، وتكون تلك الهيئة والمناسبة ممّا يتعيّن به النفس شخصا واحدا ومقتضية لاختصاصها بذلك البدن ، ومناسبة لصلوح أحدهما للآخر ، وإن خفي علينا تلك المناسبة والحالة والهيئة ، سواء قلنا بأنّ المشخّص في الحقيقة ومبدأ التشخّص بالذات هو تلك الهيئة ، أو قلنا بأنّه نحو من الوجود الخاصّ ، وأنّ تلك الهيئة والحالة أمارة وعلامة لازمة له ، على اختلافهم في المشخّص الحقيقيّ. فيظهر من هذا أنّ تشخّص النفوس إنّما يحدث البدن ، وليس لها تشخّص قبل الأبدان ، فإذا فرضنا وجود النّفس قبل البدن ، سواء فرضناها واحدة أم