وأمّا تحرير كلامه في ذلك ، فهو أنّ بعد مفارقة الأنفس للأبدان ، فإنّ الأنفس مع حدوث الأبدان وقبل المفارقة قد وجد كلّ واحد منها ذاتا منفردة باختلاف موادّها التي كانت ، أي باختلاف ما هو كالموادّ لها ، وهي الأبدان التي كانت لها باختلاف أزمنة حدوثها ، واختلاف هيئاتها التي لها بحسب أبدانها المختلفة لا محالة ، فإنّا نعلم يقينا أنّ موجد المعنى الكلّي شخصا مشار إليه لا يمكنه أن يوجده شخصا أو يزيد له ، أي إلّا أن يزيد له معنى على نوعيّته به يصير شخصا من المعاني التي تلحقه عند حدوثه وتلزمه ، سواء علمنا حقيقة تلك المعاني المشخّصة أو لم نعلمها ، وسواء حكمنا بأنّها هي المشخّصة في الحقيقة أم هي أمارة المشخّص وعلامته. ونحن نعلم أيضا أنّ النفس ليست واحدة في الأبدان كلّها ، أي ليست متشخّصة بتشخّص واحد بالعدد في الأبدان كلّها ، إذ لو كانت واحدة بالعدد وبالذات في الأبدان كلّها وكثيرة بالاعتبار وبالإضافة إلى الأبدان ، لكانت عالمة في الأبدان كلّها أو جاهلة فيها كلّها ، وامتنع أن تكون في بعضها عالمة وفي بعضها جاهلة ؛ ولما خفي على زيد ما في نفس عمرو ، لأنّ الواحد المضاف إلى كثيرين ، وإن جاز أن يختلف بحسب الإضافة إليها فيما هو حاصل له بحسب الإضافة ، لكنّ الأمور الموجودة لذلك الواحد في ذاته لا يجوز أن يختلف هو فيها. وهذا كما أنّ زيدا مثلا إذا كان أبا لأولاد كثيرين وهو شابّ ، لم يكن حصول الشّباب له إلّا بحسب الكلّ ، إذ الشّباب له في نفسه موجود له في ذاته فيدخل في كلّ إضافة ، ولا يجوز أن يختلف هو فيها ـ أي في تلك الإضافات ـ وكذلك العلم والجهل والظّن وما أشبه ذلك ، إنّما هي أمور موجودة لذات النّفس في نفسها ، فيجب أن تدخل في كلّ إضافة ولا تختلف هي فيها ، ويلزم ما ذكرنا من أنّها لو كانت واحدة بالذّات كثيرة بحسب الإضافة إلى الأبدان ، لزم أن تكون عالمة فيها كلّها أو جاهلة فيها ، ولما خفي على نفس زيد ما في نفس عمرو ، فإذن ثبت أنّ النفس ليست واحدة بالعدد ، بل هي كثيرة بالعدد. وقد ثبت أيضا أنّ نوعها واحد وهي حادثة. وحينئذ نقول : لا شكّ أنّها بأمر ما تشخّصت تشخّصا متكثّرا ، لأنّ المعنى النوعي يحتاج في تشخّصه إلى مشخّص ، ولا شكّ أيضا أنّ ذلك الأمر في النفس الإنسانيّة ليس هو الانطباع في المادّة ، فقد علم بطلان القول بذلك ، حيث ثبت تجرّدها عن المادّة. ولا شكّ