صاحب الفتوحات المكّيّة (١) أنّه نقل عن بعض أهل الكشف ، أنّه قال : إنّهم يخرجون إلى الجنّة حتّى لا يبقى في النّار أحد من الناس البتّة ، وتبقى أبوابها تصطفق ، وينبت في قعرها الجرجير ، ويخلق الله لها أهلا يملئوها.
وقال بعضهم ما يحتمل القولين : أي القول الأوّل أو الثاني. كما ينقل عن القيصريّ انّه قال في شرحه للفصوص : «واعلم أنّ من اكتحلت عينه بنور الحقّ يعلم أنّ العالم بأسره عباد الله ، وليس لهم وجود وصفة وفعل إلّا بالله وحوله وقوّته ، وكلّهم محتاجون إلى رحمته وهو الرحمن الرحيم ، ومن شأن من هو موصوف بهذه الصّفات أن لا يعذّب أحدا عذابا أبدا ، وليس ذلك المقدار من العذاب أيضا ، إلّا لأجل إيصالهم إلى كمالهم المقدّر لهم ، كما يذاب الذهب والفضّة بالنار لأجل الخلاص ممّا يكدّره وينفض غباره ، فهو يتضمّن لعين اللطف كما قيل :
وتعذيبكم عذب وسخطكم رضى |
|
وقطعكم وصل وجوركم عدل (٢) ، انتهى. |
ثمّ إنّك حيث عرفت ما ذكرنا ، ظهر لك أنّ هاهنا توهّمين ينبغي رفعهما حتّى يتّضح المقصود.
في رفع تلك الوجوه من التوهّم
فنقول : أمّا بيان رفع التوهّم الأوّل منهما ، فهو أنّك قد سمعت غير مرّة فيما تلونا عليك سابقا ، أنّه كما أنّ مكان الآخرة ليس من جنس مكان الدنيا ، كذلك زمانها ليس من جنس زمان الدنيا ، كما قال الله تعالى : (وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) (٣) ، وقال : (فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) (٤) ، فلا امتناع في أن يكون غير متناه ، إذ ليس يعلم أنّه يمكن فيه التّطبيق والتضايف والمسامتة والتزاحم ونحو ذلك ، حتّى يمكن إجراء براهين
__________________
(١) وهو الشيخ محي الدين بن العربيّ في الفتوحات المكيّة ٢ / ١٧٨ ـ ١٧٩ ، ط بولاق.
(٢) شرح القيصريّ على فصوص الحكم / ٢٤٦ ، ط طهران.
(٣) الحجّ (٢٢) : ٤٧.
(٤) السجدة (٣٢) : ٥.