فيها أنّ في ذلك إكمال رحمهالله تعالى على المؤمنين وإتمام خلودهم في الراحة ، إذ النعمة إنّما يعرف قدرها وينال كنهها ، إذا كان هناك ما يقابلها من العذاب والنقمة ، وكلّ راحة إنّما تكون راحة كاملة إذا كانت هناك زحمة يعرف مقدارها بالمقايسة إليها ، ولذا يكون من أبواب الجنّة باب مفتوح إلى النار ليلاحظ أهل الجنّة ما يكون فيه أهل النار ، فيشكروا على ما يكونون عليه من الراحة والثواب ، كما قال تعالى : (وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (١).
وأيضا يمكن أن يكون الحكمة في ذلك ، إخلاد سرور المؤمنين وإدامة فرحهم ، حيث إنّ المؤمنين الذين هم أشدّاء على الكفّار رحماء بينهم ، كما أنّهم يسرّون ويفرحون براحة أنفسهم ونعمة غيرهم من المؤمنين ، كذلك يفرحون بعذاب الكافرين الذين هم أعداؤهم وأعداء الله تعالى ، إذ الإيمان حقّ الإيمان يقتضي ذلك ، ولذا كان التولّي بأحبّاء الله والتبرّي عن أعدائه كلاهما واجبين.
وبالجملة ، إنّ في ذلك سرورهم مع توبيخ منهم على الكفّار ، كما قال تعالى حكاية: (وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) (٢) ، وقال تعالى : (وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قالُوا إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ) (٣) ولا يخفى أنّ إكمال رحمة المؤمنين وإخلاد سرورهم من جملة الحكمة المتعالية ، وأيّة حكمة أعظم منها وأعلى؟
وحيث عرفت ذلك ، فاعلم : أنّ جميع ما ذكر في هذا التوهّم الثاني ، وجعل منشأ للذهاب إلى انقطاع عذاب الكفّار في النار ، مندفعة.
أمّا ما ذكر من أنّ القسر لا يدوم الخ ، فبيان اندفاعه أنّه إذا كان العقاب هو لازم الأعمال والعقائد فلا قسر أصلا ، حتّى يمكن أن يقال إنّه يدوم أو لا يدوم ؛ وإذا كان العقاب
__________________
(١) الأعراف (٧) : ٤٧.
(٢) الأعراف (٧) : ٤٤.
(٣) الأعراف (٧) : ٥٠.