هذا العالم وعلائقه إلّا أن يكون أشدّ العلاقة مع ذلك العالم ، فصار له شوق إلى ما هناك وعشق لما هناك ، فصدّه عن الالتفات إلى ما خلفه جملة.
ونقول أيضا : إنّ هذه السعادة الحقيقية لا تتمّ إلّا بإصلاح الجزء العمليّ من النفس ، ونقدّم لذلك مقدّمة ، وكأنّا قد ذكرناها فيما سلف.
فنقول : إنّ الخلق ملكة تصدر بها عن النفس أفعال ما بسهولة من غير تقدّم رويّة ، وقد أمر في كتب الأخلاق بأن يستعمل التوسّط بين الخلقين الضدّين ، لا بأن يفعل أفعال التوسّط دون أن تحصل ملكة التوسّط ، بل أن تحصل ملكة التوسط ، وملكة التوسّط كأنّها موجودة للقوى الناطقة وللقوى الحيوانيّة معا ، أمّا للقوّة الحيوانيّة فبأن يحصل فيها هيئة الإذعان ، وأمّا للقوّة الناطقة فبأن يحصل فيها هيئة الاستعلاء والانفعال ، كما أنّ ملكة الإفراط والتفريط موجودة للقوّة الناطقة وللقوّة الحيوانيّة ولكن بعكس هذه النسبة ، ومعلوم أنّ الإفراط والتفريط مقتضيا القوى الحيوانيّة ، وإذا قويت القوى الحيوانيّة وحصل له ملكة استعلائيّة ، حدثت في النفس الناطقة هيئة إذعانيّة ، وأثر انفعاليّ قد رسخ في النفس الناطقة من شأنها أن تجعلها قويّة العلاقة مع البدن شديدة الانصراف إليه.
وأمّا ملكة التوسّط فالمراد منها التنزيه عن الهيئات الانقياديّة وتبقية النفس على جبلّتها مع إفادة هيئة الاستعلاء والتنزّه ، وذلك غير مضادّ لجوهرها ولا مائل لها إلى جهة البدن بل عن جهته ، فإنّ التوسط يسلب عنه الطرفين (١) دائما. ثمّ جوهر النفس إنّما كان البدن هو الذي يغمره ويلهيه ويغفله عن الشوق الذي يخصّه عن طلب الكمال له. وعن الشعور بلذّة الكمال إن حصل له ، والشعور بألم الكمال إن قصر عنه ، لا بأنّ النفس منطبعة في البدن أو منغمسة فيه ولكن للعلاقة التي كانت بينها وهي الشوق الجبليّ إلى تدبيره والاشتغال بآثاره ، فربّما يورده عليها من عوارضه وبما يتقرّر فيها من ملكات مبدؤها البدن ، فإذا فارقت وفيها الملكة الحاصلة بسبب الاتّصال به كانت قريبة الشبه من حالها وهي فيه ، فبما تنقص من ذلك تزول غفلتها عن حركة الشوق الذي لها إلى كمالها ، وربّما
__________________
(١) في المصدر : الطرفان.