النقطة الثالثة : هناك قول ثالث منسوب إلى الأشعري وهو أيضا يشاركنا في كون المدلول فيهما أمرا نفسانيا إلّا انه يخالفنا في تعيين ذلك ، فانهم التزموا بأنّ في النّفس صفة أخرى غير الصفات المشهورة من العلم والشجاعة والعزم والجزم والإرادة ، ونحو ذلك ، تكون نظير هذه الصفات وعبّروا عنها بالكلام النفسيّ ، وذهبوا إلى انها مدلول الكلام اللفظي ، وعبروا عنه في الجمل الخبرية بالكلام النفسيّ وفي الإنشائية بالطلب ، واستشهدوا لذلك بأمور مثل الإنسان يقول لمخاطب انّ في نفسي كلاما أريد ان أبديه ، أو انه لو لم يكن الكلام منظما في النّفس فكيف ينشئه اللافظ مرتبا.
وليعلم قبل بيان استدلالهم انه لو سلمنا صحة الكلام النفسيّ وأثبتناه مع ذلك يستحيل ان يكون ذلك موضوعا له للجمل ، لما بيناه من انّ الوضع بمعنى التعهد ، ولا مناص من تعلقه بأمر مقدور للواضع ، وليس ذلك إلّا ذكر اللفظ عند إرادة تفهيم المعنى.
ثم انه بعد التأمل ظهر لنا انّ القائل بالكلام النفسيّ لا يدّعي وضع الألفاظ لذلك كما يظهر من كلماتهم ، فهم موافقون مع المشهور فيما وضع له الألفاظ ، وانما يدعون دلالة الكلام اللفظي على الكلام النفسيّ دلالة المعلول على علّته كدلالة الفحش على ثبوت البغض في نفس الفحاش مثلا ، لا الدلالة الوضعيّة ، فما يظهر من الكفاية (١) من اسناده إلى الأشعري دلالة الكلام اللفظي على الكلام النفسيّ بالدلالة الوضعيّة غير صحيح.
وكيف كان ذهب الأشاعرة إلى ثبوت حروف وألفاظ في النّفس نظير الحروف والكلمات ، غايته انّ الحروف في الألفاظ الخارجية متعاقبة ويوجد منها
__________________
(١) كفاية الأصول ـ المجلد الأول ـ ص ٩٨.