مستلزم لمحذور أصلا ، بل هو مما لا بدّ منه عقلا ، والروايات إرشاد إلى حكم العقل ، فانه مستقل بأنه تعالى عالم بجميع الأشياء حتى الملازمات والمعدومات ، لأنه تعالى مجمع الصفات الحسنة التي منها العلم بجميع الأشياء.
بقي الكلام في وجه تسمية ذلك بالبداء. ويذكر له وجهان :
الأول : المشاكلة ، فانّ تعلق مشيته المقدسة بعدم تحقق ما تحقق المقتضي لثبوته شبيه بالبداء الحقيقي ، ومن هذا الباب قوله تعالى (لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً)(١) مع انه كان عالما به ، وقوله تعالى (لِيَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ)(٢) مع انه كان مميزا عنده.
الثاني : وهو وجه دقيق بعيد عن الفهم العرفي ، وتوضيحه يكون ببيان مقدمة وهي : انه تعالى له علمان ، علمه الذاتي وهو انكشاف ذاته لديه ، وفي هذا يتحد العلم والعالم والمعلوم ، فانّ العالم ذاته والمعلوم ذاته والانكشاف أيضا ذاته المقدسة ، وعلمه الفعلي وهو علمه بمخلوقاته ، فانها حاضرة لديه جل وعلا بأعلى مراتب الحضور ، ونمثل لذلك بعلمنا ، فانّ الإنسان إذا تصور صورة شيء خارجي في ذهنه فيكون عالما به بالعلم الحصولي أي ترتسم صورة منه في الذهن ، وهذا هو المعبر عنه بالعلم الحصولي المستحيل فيه تعالى وتقدس. وامّا نفس تلك الصورة التي هي مخلوقة للنفس فهي بواقعها حاضرة لدى النّفس ، والنّفس عالمة بها لا بصورتها وإلّا لزم التسلسل ، كما انّ علم النّفس بنفسها أيضا حضوري ، فانّ النّفس بواقعها حاضرة لدى النّفس ، وفيه يتحد العالم والمعلوم. وعلم الباري جل شأنه بمخلوقاته حضوري نظير علم النّفس بمخلوقاتها ، وعلمه بذاته نظير علم النّفس بذاتها فانّ النّفس مرآة له تعالى ذاتا وفعلا وصفة ، وهذا معنى قوله تعالى (وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ
__________________
(١) الكهف ـ ١٢.
(٢) الأنفال ـ ٣٧.