على أن ما بين هذه الآيات والآيات التالية لها من انسجام وتوازن قافية وعطف ما بعدها عليها وما فيها من حكاية لموقف المكذبين وتثبيت للنبي صلىاللهعليهوسلم يمكن أن يدل على أنها ليست منفصلة عما بعدها وأنها جاءت كمطلع تمهيدي له فيه تثبيت وإعداد. وإذا صح هذا فإن أولية الآيات وبالتالي فإن ترتيب السورة لا يكون صحيحا.
والآيات على كل حال مما نزل مبكرا جدا ، ويصح أن يقال والحالة هذه إن ما احتوته من أوامر بشأن قيام الليل وترتيل القرآن والتبتل إلى الله فيه كان خاصا بالنبي صلىاللهعليهوسلم بالدرجة الأولى بحسب إعداده للمهمة العظمى التي اصطفاه الله لها. ولعل الضمير المفرد المخاطب يقوم قرينة على ذلك. ولا بد من أن يكون النبي صلىاللهعليهوسلم قد قام بما أمر به أحسن قيام وهو ما تواترت فيه الآثار (١).
والناقد البصير يقرأ والحالة هذه في هذه الآيات صفحة من حياة الرسول صلىاللهعليهوسلم الروحية وسيرته التعبدية واستغراقه في الله في الخلوات وهدأة الليل في معظمه ، ويلمس ما كان لهذا من أثر في صفاء نفسه وقوة روحه. ولا سيما إذا تذكر ما كان من مثل هذه الخلوات والاعتكافات الروحية قبل بعثته صلىاللهعليهوسلم على ما جاء في حديث البخاري عن عائشة رضي الله عنها الذي أوردناه في تفسير العلق ، حيث جاء فيه فيما جاء : «ثم حبب إليه الخلاء فكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه الليالي ذوات العدد» ، وكان لذلك من دون ريب أثر في استعداده لتلقي وحي ربه. وكان من أسباب اصطفاء الله له لتلك المهمة.
وقد روي (٢) أن أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم الأولين السابقين ما لبثوا أن اقتدوا برسول الله صلىاللهعليهوسلم في ذلك حتى صارت تنتفخ أقدامهم من قيام الليل والوقوف في الصلاة ، وكان ذلك مما يزيدهم قوة وإيمانا وصفاء نفس وصلابة أمام المناوئين.
ولقد روي هذا عن النبي صلىاللهعليهوسلم نفسه في حديث رواه البخاري والترمذي
__________________
(١) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري وابن كثير.
(٢) المصدر نفسه.