ومسلم عن يحيى قال : «سألت أبا سلمة أيّ القرآن أنزل أول؟ فقال : (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ). قلت : أنبئت أنه (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ)! فقال : لا أخبرك إلّا بما قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم. قال جاورت في حراء فلما قضيت جواري هبطت فاستبطنت الوادي فنوديت فنظرت أمامي وخلفي وعن يميني وعن شمالي فإذا هو جالس على عرش بين السماء والأرض. فأتيت خديجة فقلت دثّروني وصبّوا عليّ ماء باردا ففعلوا وأنزل عليّ : (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (١) قُمْ فَأَنْذِرْ (٢) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) (٣)» (١) [سورة المدثر : ١ ـ ٣]. ومع ذلك فليس في الكلام النبوي ما يساعد على الجزم بأولية الآيات. ويظل حديث أولية آيات سورة العلق الأولى أقوى.
والآيات تحتوي أول أمر للنبي صلىاللهعليهوسلم بإنذار الناس ودعوتهم وبما يجب عليه من الظهور بالمظهر الطاهر النظيف واللسان العفيف والتواضع. وهذا مما يمكن أن يدعم رواية كونها ثانية مجموعة نزلت بعد آيات العلق الأولى. والمصحف الذي اعتمدناه هو الذي ذكر أنها نزلت بعد المزمل ، وجعلها رابع السور نزولا فلم نشأ أن نخلّ في ترتيبه.
على أن روح الآيات ونظمها وروح الآيات التالية لها ونظمها أيضا يمكن أن يلهم أنها غير منفصلة عن بعضها. وحينئذ فإن الآيات تكون قد نزلت بقصد تثبيت النبي صلىاللهعليهوسلم وتكون قد نزلت هي والآيات التالية لها معا أو متلاحقة بعد نزول سور وفصول قرآنية فيها مبادئ الدعوة وأهدافها. وفي هذه الحالة يكون ترتيبها كرابعة سورة قرآنية غير صحيح.
وعلى كل حال فالآيات وآيات السورة معا مما نزل مبكرا على ما يلهم أسلوبها ومضمونها والخطة التي رسمها الله للنبي صلىاللهعليهوسلم في الدعوة والاتصال بالناس
__________________
(١) التاج ج ٤ ص ٢٤٧. وهناك حديث آخر رواه الشيخان والترمذي عن جابر قريب من هذا مع زيادة ونصه : «بينما أنا أمشي إذ سمعت صوتا من السماء فرفعت بصري فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض فرعبت منه ورجعت وقلت زملوني زملوني فأنزل الله (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ)». التاج ج ٣ ص ٢٢٧ ـ ٢٢٨.