وقد تبادر لنا تأويلان آخران (أولهما) أن تقرير كون الذين زيّن الله تعالى أعمالهم هم الذين لا يؤمنون بالآخرة قد يجعل الجملة من باب (وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ) [٢٧] في آية سورة إبراهيم و (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ) في سورة البقرة [في الآية : ٢٦]. ووصفهم بالمجرمين قرينة مؤيدة لوجاهة هذا التأويل ، أما (ثانيهما) فهو أن الله تعالى قد أودع في عباده ناموس استحسان أعمالهم ، فمنهم من يبلغ ذلك فيهم إلى حد يعميهم عن إدراك الحق ، وهؤلاء الذين يجحدون بآيات الله ويكذبون بالآخرة ، وفي سورة الأنعام آية من باب الآية التي نحن في صددها وقد جاءت مطلقة وهي (كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٠٨) وعبارتها تشمل جميع الناس محسنهم ومسيئهم وتقوّي وجاهة التأويل الثاني.
وعلى كل حال فإن هذه التأويلات هي التي تتسق مع روح القرآن وتقريراته المحكمة عامة التي من ضمنها تقرير جعل الله في الإنسان قابلية الاختيار والكسب وإرساله الرسل للبشر ليبينوا لهم بإذنه ووحيه طرق الهدى والضلال والحق والباطل والخير والشر ، وجزاؤه كلّا بما اختاره وفي الوقت نفسه تنزه الله سبحانه عن تزيين أعمال الكفر والمعاصي للكفار والعصاة.
تعليق عام على آيات السورة الأولى
وكلمة (الزَّكاةَ) تأتي هنا لثاني مرة في آية مكية. وصيغة الآية مثل صيغة آية سورة الأعراف (وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ) (١٥٦) التي ذكرت فيها الكلمة أي صيغة حثّ وتنويه. والسورة من السور المبكرة نوعا ما. وفي هذا وذاك دلالة جديدة على أن النبي صلىاللهعليهوسلم قد رتّب منذ أوائل الدعوة على الميسورين من المؤمنين مقدارا معينا من المال باسم (زكاة) لمصلحة فقراء المسلمين ومصلحة الدعوة أو كان يحثّهم على إنفاق جزء من مالهم بهذا الاسم على هاتين