وهناك أنواع أخرى من الإطناب ، كما تقول في الشيء المستبعد : رأيته بعيني ، وسمعته بأدنى ، وذقته بفمي : تقول ذلك لتأكيد المعنى وتقريره. وكقوله تعالى : (فخرّ عليهم السَّقفُ من فوقهم) والسقف لا يخر طبعاً إلا من فوق ، ولكنه دلّ بقوله (من فوقهم) على الإحاطة والشمول.
واعلم : أن الأطناب أرجحُ عند بعضهم من الإيجاز ، وحُجَته في ذلك أن المنطق إنما هو البيان ، والبيان لا يكون الا بالاشباع ، والإشباع لا يقع إلا بالإقناع ، وأفضل الكلام أبينُه ، وأبينُه أشده إحاطة بالمعاني ولا يحاط بالمعاني إحاطة تامة ، إلا بالاستقصاء والاطناب.
والمختار : أن الحاجة إلى كل من الاطناب ، والإيجاز ، ماسة : وكل موضع لا يسدّ أحدهما مكان الآخر فيه. وللذوق السليم : القول الفصل في موطن كلٍ منهما (١).
المبحث الثالث في المُساواة
المُساواة : هي تأديةُ المعنى المراد : بعبارة مساوية له (٢) ، بأن تكون الألفاظ على قدر المعاني ، لا يزيد بعضها على بعض.
ولسنا بحاجة إلى الكلام على المساواة ، فإنها هي الأصل المقيس عليه ، والدستور الذي
__________________
(١) المساواة هي ماسوي لفظه معناه : بحيث لا يزيد أحدهما على الآخر وهي نوعان :
الأول : مساواة مع الاختصار ، وهي أن يتحرى البليغ في تأدية المعنى أوجز ما يكون من الالفاظ القليلة الأحرف ، الكثيرة المعاني كقوله تعالى : (هل جزاء الاحسان إلا الاحسان) وكقوله تعالى : (ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله).
والثاني : مساواة بدون اختصار «ويسمى متعارف الاوساط» وهو تأدية المقصود من غير طلب الاختصار. كقوله تعالى : (حور مقصورات في الخيام).
والوجهان في المركز الأسمى من البلاغة غير أن الأول أدخل فيها وأدل عليها.
والمساواة فن من القول عزيز المنال ، تشرأب إليه أعناق البلغاء ، لكن لا يرتقي إلى ذراه إلا الأفذاذ لصعوبة المرتقى ، والمساواة يعتبرها بعضهم وسطا بين الايجاز والاطناب وبعضهم يدمجها ، ولا يعدها قسما ثالثا للايجاز والاطناب.