المبحث الرابع
في المجاز المفرد بالاستعارة
تمهيد
سبق : أن التشبيه أول طريقة دلّت عليها الطبيعة ، لايضاح أمر يجهله المخاطب ، بذكر شيء آخر ، معروف عنده ، ليقيسه عليه ، وقد نتج من هذه النظرية ، نظرية أخرى في تراكيب الكلام ، ترى فيها ذكر المشبه به فقط ، وتسمى هذه بالاستعارة ، وقد جاءت هذه التراكيب المشتملة على الاستعارة أبلغ من تراكيب التشبيه ، وأشد وقعاً في نفس المخاطب ، لأنه كلما كانت داعية إلى التحليق في سماء الخيال ، كان وقعها في النفس أشد ، ومنزلتها في البلاغة أعلى وما يبتكره أمراء الكلام من أنواع صور الاستعارة البديعة ، التي تأخذ بمجامع الأفئدة ، وتملك على القارىء والسامع لبهما وعواطفهما ، هو سر بلاغة الاستعارة.
فمن الصور المجملة التي عليها طابع الابتكار وروعة الجمال قول شاعر الحماسة :
قومٌ إذا الشر أبدى ناجذيه لهم |
|
طاروا إليه زرافاتٍ ووحدانا |
فانه قد صور لك الشر ، بصور حيوان مفترس ، مكشر عن أنيابه ، مما يملا فؤادك رعباً ، ثم صور القوم الذين يعنيهم ، بصور طيور جوارح تطير إلى مصادمة الأعداء ، طيراناً مما يستثير إعجابك بنجدتهم ، ويدعوك إلى إكبار حميتهم وشجاعتهم.
ومنهم : من يعمد إلى الصورة التي يرسمها ، فيفصّل أجزاءها ، ويبين لكل جزء مزيته الخاصة ، كقول امرىء القيس في وصف الليل بالطول :
فقلت له لمّا تمطّى بصُلبه |
|
وأردف أعجازاً وناء بكلكَلِ (١) |
__________________
(١) تمطى تمدد ، والصلب عظم في الظهر من لدن الكاهل إلى العجب ، والعجز مؤخر الجسم ، والكلكل الصدر ، أو ما بين الترقوتين.