فأمَّا الخُطبُ بين السِّماطينِ ، وفي إصلاح ذاتِ البَينِ ، فالإكثار في غير خَطلٍ ، والاطَالَةَ في غير إملالٍ ، وليَكن في صَدرِ كلامك دليلٌ على حاجتك ، فقيل له : فإن مَلَّ المُستمعُ الاطالَة التي ذَكرتَ أنَّها حَقٌّ ذلك الموقف؟ قال : إذا أعطيتَ كل َّ مقام حَقَّهُ ، وقَمتَ بالذي يجبُ من سياسة ذلك المقام ، وأرضيتَ مَن يَعرفَ حقوقَ الكلام ، فلا تهتم لما فاتك من رضا الحاسد والعدوّ ، فإنه لا يُرضيهمَا شيء ، وأما الجاهلُ فَلَستَ منه ، وليس منك ، وقد كان يقال : (رِضاء الناس شيء لا يُنال (١)).
(٧) ولابنِ المُعتّزّ : أبلغُ الكلام : ما حَسُنَ إيجازُهُ ، وَقلَّ مَجَازُه ، وكَثُر إعجازُه ، وتناسَبت صُدُوره وأعجَازُه (٢).
(٨) وسمع خالدُ بنُ صَفوَان رجلاً يتكلّم ، ويكثرُ الكلام.
فقال : اعلم (رحمك الله) أن البلاغة ليست بخفَّة اللّسان ، وكثرة الهذيان ، ولكنها بإصابة المعنى ، والقصد إلى الحُجّة (٣).
(٩) ولبشرِ بن المعُتمرِ : فيما يجب أن يكون عليه الخطيب والكاتب رسالة من أنفس الرسائل الأدبية البليغة ، جمعت حدود البلاغة وصوّرتها أحسَنَ تصوير ، وسنذكر مع شيء من الإيجاز ما يتصل منها بموضوعنا قال :
خُذ من نفسك سَاعةَ نشاطك ، وفراغِ بالكَ ، وإجابتها إيَّاك؛ فانّ قليلَ تلك الساعة أكرَمُ جَوهَراً ، واشرفُ حسباً ، وأحسّنُ في الأسماع ، وأحلى في الصُّدُور ، واسلمُ من فاحش الخطأ ، وأجلَبُ لكل عَينٍ وغُرَّة : من لفظ شريف ، ومعنى بديع. واعلم أن ذلك أجدَى عليك : مما يعطيك يَومُكَ الأطولُ بالكَد والمُطاوَلة والمجاهدة ، وبالتكلُّفِ والمعاودة. وإيَّاك والتّوعُرَ؛ فإنّ التّوعر يُسلِمُك إلى التّعقيد ، والتعقيد هو الذي يستهلك معانيكَ ، ويشين ألفاظَك ، ومن اراد معنى كريماً فَليَلتمس له لفظاً كريماً ، فإن حقَّ المعنى الشريف اللفظُ الشريف ، ومن حقِهِّما أن تصونهما عما يفسدهما ويهُجِّنهما ...
__________________
(١) البيان والتبيين جزء ١ ص ٩١ ، ٩٢.
(٢) نهاية الأرب جزء ٧ ص ١١.
(٣) مختار العقد الفريد ص ٩٨.