وينبغي للمتكلم : أن يعرف أقدار المعاني ، ويوازن بينها وبين أقدار المستمعين ، وبين اقدار الحالات؛ فيجعل لكل طبقة من ذلك كلامان ولكل حالة من ذلك مقامان حتى يقسِّم أقدار الكلام على أقدار المعاني ، ويقسِّم أقدار المعاني على أقدار المقامات ، واقدار المستمعين على أقدار تلك الحالات.
وبعدُ ، فاَنت ترى فيما قالوه : أن حدّ البلاغة هو أن تجعل لكل مقام مقالا؛ فتوجز : حيث يحسن الإيجاز ، وتطنب : حيث يجمل الاطناب ، وتؤكد : في موضع التوكيد ، وتقدم أو تؤخر : إذا رأيت ذلك أنسبَ لقولك ، وأوفى بغرضك ، وتخاطب الذكي بغير ما تخاطب به الغبي ، وتجعل لكل حال ما يناسبها من القول ، في عبارة فصيحة ، ومعنى مختار. ومن هنا عَرَّفَ العلماء «البلاغة» بأَنها : مطابقة الكلام لمقتضَى الحال مع فصاحة عباراته.
واعلم : أنَّ الفرق بين الفصاحة والبلاغة : أن الفصاحةَ مقصورةٌ على وصف الألفاظ ، والبلاغةَ لا تكون إلا وصفاً للألفاظ مع المعاني؛ وأن الفصاحةَ تكون وصفاً للكلمة والكلام ،
والبلاغةَ لا تكون وصفاً للكلمة ، بل تكون وصفاً للكلام ، وأن فصاحة الكلام شرط في بلاغته.
فكل كلام بليغ : فصيحٌ ، وليس كل فصيح بليغاً ، كالذي يقع فيه الإسهاب حين يجب الإيجاز.