يثرب (أي جمالها) قد حملت الموت. أما ترونهم خرسا لا يتكلّمون ويتلمّظون تلمّظ الأفاعي؟ ما لهم من ملجأ إلا سيوفهم ، وما أراهم يولّون حتى يقتلوا ، ولا يقتلون حتى يقتلوا بعددهم. فارتأوا رأيكم. فقال أبو جهل : كذبت وجبنت ، فأنزل الله تعالى : (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها) ، فبعث إليهم رسول الله (ص) فقال : يا معشر قريش ، إني أكره أن أبدأ بكم ، فخلّوني والعرب وارجعوا. فقال عتبة : ما ردّ هذا قوم قطّ فأفلحوا ، ثم ركب جمله وجال بين العسكرين ونهى عن القتال ، فقال رسول الله (ص) : إن يك عند أحد خير فعند صاحب الجمل الأحمر ـ أي عتبة ـ وإن يطيعوه يرشدوا. وكان عتبة قد خطب فقال : يا معشر قريش ، أطيعوني اليوم واعصوني الدهر ، إن محمدا له إلّ وذمّة ـ أي عهد وأمان ـ وهو ابن عمكم ، فخلّوه والعرب ، فإن يك صادقا فأنتم أعلى عينا به ، وإن يك كاذبا كفتكم ذؤبان العرب أمره. فغاظ أبا جهل قوله فقال له : جبنت وانتفخ سحرك؟ فقال : يا مصفرّا ستة ، مثلي يجبن؟ وستعلم قريش أيّنا الأم وأجبن ، وأيّنا المفسد لقومه ، ولبس درعه وتقدّم هو وأخوه شيبة وابنه الوليد ، وقال : يا محمد ، أخرج إلينا أكفاءنا من قريش. فبرز إليهم ثلاثة نفر من الأنصار وانتسبوا لهم. فقالوا : ارجعوا إنما نريد الأكفاء من قريش. فأمر رسول الله (ص) عبيدة بن الحرث بن عبد المطلب ـ وهو ابن سبعين سنة ـ وعمّه الحمزة ، وعليّ بن أبي طالب ـ وهو أصغر القوم ـ وقال (ص) : اطلبوا بحقكم الذي جعله الله لكم ، فقد جاءت قريش بخيلائها وفخرها ، تريد أن تطفئ نور الله ، ويأبى الله إلّا أن يتمّ نوره. وقال : يا عبيدة عليك بعتبة ، ويا حمزة عليك بشيبة ، ويا عليّ عليك بالوليد. فبرزوا إليهم ، فقالوا : أكفاء كرام.
وحمل عبيدة على عتبة فضربه ضربة فلقت هامته ، وضر عتبة عبيدة على ساقه فقطعها ، فسقطا جميعا.
وحمل شيبة على حمزة فتضاربا بالسيفين حتى انثلما.