يسوق ماشية في البراري والأحراج أكثر من أن (يهش به على غنمه) أي يضرب بها الأشجار لتتناثر أوراقها على الأغنام فترعاها؟ .. وهل يقتني العصا إلّا من كانت له (فِيها مَآرِبُ أُخْرى) أي قضاء حاجات مختلفة من صدّ العدوّ والوحش الضاري والتهويل في كل مناسبة؟ هذه هي لوازم العصا التي يعلمها الله سبحانه وتعالى أكثر ممّا يعلمها موسى عليهالسلام ، ولكن هذا الذي حصل للسبب الذي ذكرناه من جهة ، ولسبب أن تلك العصا كانت ذات خصوصية ملازمة لها كان موسى لا يزال جاهلا بها وإن كان قد رأى فيها عجائب ليست في غيرها من العصيّ. فقد روى ابن عباس أن من منافعها أنها كانت تتكلّم مع موسى عند وحدته ، فكان يستأنس بها. ومنها أنها كانت تحرسه نوما ويقظة في السفر والحضر من السباع وغيرها ، وأنها كانت تحارب معه عدوّه ، وتحافظ على أغنامه عند غيابه عنها وعند نومه ، وإذا استسقى من بئر كانت تصير حبلا ، وكان في رأسها شعبتان تصيران دلوا يغترف به الماء ، ويصير طولها بعمق البئر فيستقي بها بأدنى قوّة ، وإذا أراد فاكهة كان يغرسها فتخضرّ في الحال وتظهر عليها أنواع الفواكه الناضجة ، وفي الليلة المظلمة كانت شعبتاها تضيئان كالقمر المنير ، وإذا احتاج إلى النار يضرب على شعبتها حجر النار فتخرج منه النار ، وإذا اشتهى الطعام أو الشراب يطلع منها ما يريد. وهكذا كان يستفيد منها موسى فيركبها في السفر إذا تعب فيراها أسرع مركب وأحسنه.
وإذا قيل : ما زالت كذلك فلم لم يفصّل موسى هذه المآرب بين يدي الله تعالى ، واكتفى بما ذكره؟
قلنا : لعله قد أخذته الدهشة والهيبة الإلهيّة فلم يستطع أن يتكلم بأزيد ممّا فصّل وذكر ، فجمع كلامه كلّه بقوله : (وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى). وهنا أراد ربّه جلّ وعلا أن ينبهّه إلى أمر أعجب وأعظم من كلّ ما يعرفه فيها ، فتابع الحوار :
١٩ و ٢٠ ـ (قالَ أَلْقِها يا مُوسى ، فَأَلْقاها) ... أي قال الله تعالى له :