فلو لا أنه رأى الحق فيها واستدارك أمره فبايع طالبا حظ نفسه في دينه راجعا إلى الحق لما بايع.
فإن قالت الروافض : إنه بعد ستة أشهر رأى الرجوع إلى الباطل فهذا هو الباطل حقا ، لا ما فعل علي رضي الله عنه ، ثم ولى علي رضي الله عنه فما غير حكما من أحكام أبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، ولا أبطل عهدا من عهودهم ، ولو كان ذلك عنده باطلا لما كان في سعة من أن يمضي الباطل وينفذه ، وقد ارتفعت التقية عنه. وأيضا فقد نازع الأنصار رضي الله عنهم أبا بكر رضي الله عنه ودعوا إلى بيعة سعد بن عبادة رضي الله عنه ، ودعا المهاجرون إلى بيعة أبي بكر رضي الله عن جميعهم ، وقعد علي رضي الله عنه في بيته لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ، ليس معه أحد غير الزبير بن العوام ثم استبان الحق للزبير رضي الله عنه فبايع سريعا ، وبقي علي وحده لا يرقب عليه ولا يمنع من لقاء الناس ولا يمنع أحد من لقائه ، فلا يخلو رجوع الأنصار كلهم إلى بيعة أبي بكر من أن يكون عن غلبة أو عن ظهور حقه إليهم فأوجب ذلك الانقياد لبيعته ، أو فعلوا ذلك مطارفة لغير معنى ولا سبيل إلى قسم رابع بوجه من الوجوه.
فإن قالوا بايعوه بغلبة كذبوا لأنه لم يكن هنالك قتال ولا تضارب ولا سباب ولا تهديد ولا وقت طويل ينفع للوعيد ولا سلاح مأخوذ ، ومحال أن يترك أزيد من ألفي فارس أمجاد أبطال كلهم عشيرة واحدة ، قد ظهر من شجاعتهم ما لا مرمى وراءه ، وهو أنهم بقوا ثمانية أعوام متصلة محاربين لجميع العرب في أقطار بلادهم موطنين على الموت متعرضين مع ذلك لحرب قيصر والروم بمؤتة وغيرها ولكسرى والفرس تنصرهم من يخاطبهم يدعو لهم ويدعوه إلى اتباعه وأن يكون كأحد من بين يديه ، هذه صفة الأنصار التي لا ينكرها إلا رقيع مجاهر بالكذب فمن المحال الممتنع أن يرهبوا أبا بكر ورجلين أتيا معه فقط ، لا يرجع إلى عشيرة كثيرة ، ولا إلى موال ، ولا إلى عصبة ولا مال ، فرجعوا إليه ، وهو عندهم مبطل ، وبايعوه بلا تردد ولا تطويل ، وكذلك يبطل أن يرجعوا عن قولهم ، وما كانوا قد رأوه من أن الحق حقهم ، وعن بيعة ابن عمهم مطارفة بلا خوف يضطرهم إلى ذلك ودون طمع يتعجلونه من مال أو جاه ، بل فيما فيه ترك العز والدنيا والرئاسة وتسليم كل ذلك إلى رجل أجنبي لا عشيرة له ولا منعة ، ولا حاجب ولا حرس على بابه ، ولا قصر ممتنع فيه ، ولا موالي ولا مال ، فأين كان علي وهو الذي لا نظير له في الشجاعة ومعه جماعة بني هاشم ، وبني المطلب ، من قتل هذا الشيخ لا دافع دونه ، لو كان عنده ظالما وعن منعه وزجره؟ بل قد علم والله علي رضي الله عنه أن أبا بكر رضي الله عنه على الحق وأن من خالفه على الباطل ،