إصفاق جميع الأمة أولها عن آخرها من برقة إلى أول خراسان ، ومن الجزيرة إلى أقصى اليمن ، إذ بلغهم الخبر على السكوت عن حق هذا الرجل ، واتفاقهم على ظلمه ومنعه من حقه ، وليس هناك شيء يخافونه لإحدى عجائب المحال الممتنع ، وفيهم الذين بايعوه بعد ذلك ، إذ صار الحق حقه ، وقتلوا أنفسهم دونه ، فأين كانوا عن إظهار ما تنبهت له الروافض الأنذال؟ ثم العجب إذ كان غيظهم عليه هذا الغيظ ، واتفاقهم على جحده حقه هذا الاتفاق ، كيف تورعوا عن قتله ليستريحوا منه؟ أم كيف أكرموه وبروه وأدخلوه في الشورى ..؟
وقال هشام بن الحكم : كيف يحسن الظن بالصحابة أن لا يكتموا النصّ على عليّ وهم قد اقتتلوا وقتل بعضهم بعضا فهل يحسن بهم الظن في هذا؟
قال أبو محمد : لو علم الفاسق أن هذا القول منه أعظم حجة عليه لم ينطق بهذا السخف ، لأن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أول من قاتل حيث افترق الناس ، فكل ما لحق المقتتلين منهم من حسن الظن بهم أو من سوء الظن بهم فهو لاحق بعلي في قتاله ، ولا فرق بينه وبين سائر الصحابة في ذلك كله ـ وبالله تعالى التوفيق.
فإن خصّه متحكما كان كمن خص غيره منهم متحكما ولا فرق.
وأيضا فإن قتالهم رضي الله عنهم أوكد برهان على أنهم لم يغاروا على ما رأوه باطلا ، بل قاتل كل فريق منهم على ما رآه حقا ، ورضي بالموت دون الصبر على خلاف ما عنده ، وطائفة منهم قعدت إذ لم تر الحق في القتال فدل ذلك على أنه لو كان عندهم نص على عليّ أو عند واحد منهم لأظهروه ، أو لأظهره كما أظهروا ما رأوا أن يبذلوا أنفسهم للقتال والموت دونه.
فإن قالوا : قد أقررتم أنه لا بد من إمام فبأي شيء يعرف الإمام ..؟ لا سيما وأنتم خاصة معشر أهل الظاهر الذين لا يقولون إلا بنص قرآن ، أو خبر صحيح ، وهذا أيضا مما سألنا عنه أصحاب القياس والرأي.
قال أبو محمد : فجوابنا وبالله تعالى التوفيق : أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم نص على وجوب الإمامة ، وأنه لا يحل بقاء ليلة دون بيعة ، وافترض علينا بنص قوله الطّاعة للقرشي إماما واحدا لا ينازع إذا قادنا بكتاب الله عزوجل.
فصح من هذه النصوص النص على صفة الإمام الواجب طاعته ، كما صح النص على صفة الشهود في الأحكام ، وصفة المساكين والفقراء الواجب لهم الزكاة ، وصفة من يؤم في الصلاة ، وصفة من يجوز نكاحها من النساء ، وكذلك سائر الشريعة كلها ،