الكلام في الاستحالة
قال أبو محمد : احتج الحنيفيون ومن وافقهم في قولهم إن النقطة من البول والخمر تقع في الماء فلا يظهر لها فيه أثر أنها فيه باقية بجسمها إلا أن أجزاءها دقت وخفيت عن أن تحس ، وكذلك الحبر يرمى في اللبن فلا يظهر له فيه أثر ، وكذلك الفضة اليسيرة تذاب في الذهب فلا يظهر لها فيه أثر ، وهكذا في كل شيء فقالوا : لو أن ذلك المقدار من الماء يحيل ماء النقطة من الخمر تقع فيه لكان أكثر من ذلك المقدار أقوى على الإحالة بلا شك ، ونحن نجد كلما زدنا نقط الخمر وقلتم أنتم قد استحالت ماء ونحن نزيد فلا يلبث أن تظهر الخمر ، وهكذا في كل شيء قالوا فظهرت صحة قولنا ولزمكم أن كلما كثر الماء ضعفت إحالته وهكذا في كل شيء.
قال أبو محمد : فقلنا لهم : إن الأمور إنما هي على ما رتبها الله عزوجل وعلى ما توجد عليه لا على قضاياكم المخالفة للحس ، ولا ننكر أن يكون مقدار ما يفعل فعلا ما ، فإذا كثر لم يفعل ذلك الفعل كالمقدار من الدواء ينفع ، فإذا زيد فيه أو نقص منه لم ينفع ، ونحن نقرّ معكم بما ذكرتم ولا ننكره فنقول : إن مقدارا ما من الماء يحيل مقدارا ما مما يلقى فيه من الخل أو الخمر أو العسل ، ولا يحيل أكثر مما يكون فيه ، ونحن نجد الهواء يحيل الماء هواء حتى إذا كثر الهواء المحيل من الماء لم يستحل بل أحال الهواء ماء ، وهكذا كل ما ذكرتم وإنما العمدة هاهنا على ما شهدت به أوائل العقول والحواس ، من أن الأشياء إنما تختلف باختلاف طبائعها وصفاتها التي منها تقوم حدودها وبها تختلف في اللغات أسماؤها ، فللماء صفات وطبائع إذا وجدت في جرم ما سمي ماء وكان ماء فإذا عدمت منه لم يسم ماء ولم يكن ماء ، وهكذا كل ما في العالم ولا نحاشي شيئا أصلا ، ومن المحال أن تكون حدود الماء وصفاته وطبعه في العسل أو في الخمر وهكذا كل شيء في العالم فأكثره يستحيل بعضه إلى بعض ، فأي شيء وجدت فيه حدود شيء ما سمي باسم ما فيه تلك الحدود إذا استوفاها كلها ، فإن لم يستوف إلا بعضها وفارق أيضا شيئا من صفاته الذاتية فهو حينئذ شيء غير الذي كان وغير الذي مازج كالعسل الملقى في الأيارج ، ونقطة مداد في لبن وما