الكلام في الجواهر والأعراض وما الجسم؟ وما النفس؟
قال أبو محمد : اختلف الناس في هذا الباب ، فذهب هشام بن الحكم : إلى أنه ليس في العالم إلّا جسم ، وأن الألوان والحركات أجسام ، واحتج أيضا بأن الجسم إذا كان طويلا عريضا عميقا فمن حيث وجدته وجدت اللّون فيه ، فوجب الطول والعرض والعمق للّون أيضا ، فإذا وجب ذلك للّون فاللّون أيضا طويل عريض عميق ، وكل طويل عريض عميق جسم ، فاللّون جسم. وذهب إبراهيم بن سيّار النّظام إلى مثل هذا سواء سواء إلّا الحركات فإنه قال : هي خاصة أعراض.
وذهب ضرار بن عمرو : إلى أن الأجسام مركبة من الأعراض. وذهب سائر الناس إلى أنّ الأجسام هي كل ما كان طويلا عريضا عميقا شاغلا لمكان ، وأن كل ما عداه من لون أو حركة أو مذاق أو طيب أو محبة فعرض. وذهب بعض الملحدين إلى نفي الأعراض ، ووافقهم على ذلك بعض أهل القبلة.
قال أبو محمد : أما الجسم فمتفق على وجوده ، وأما الأعراض فإثباتها وبيّن واضح بعون الله تعالى ، وهو أننا لم نجد في العالم إلّا قائما بنفسه حاملا لغيره ، أو قائما بغيره لا بنفسه محمولا في غيره ، ووجدنا القائم بنفسه شاغلا لمكان يملؤه ، ووجدنا الذي لا يقوم بنفسه لكنه محمول في غيره لا يشغل مكانا بل يكون الكثير منها في مكان حاملها القائم بنفسه ، هذه قسمة لا يمكن وجود شيء في العالم بخلافها ، ولا يوجد قسم زائد على ما ذكرنا ، فإذ ذلك كذلك فبالضرورة علمنا أنّ القائم بنفسه الشاغل لمكانه هو نوع آخر غير القائم بغيره الذي لا يشغل مكانا فوجب أن يكون لكل واحد من هذين الجنسين اسم يعبّر عنه ليقع التفاهم بيننا فاتفقنا على أن سمّينا القائم بنفسه ، الشاغل لمكانه جسما ، واتّفقنا على أن سمّينا ما لا يقوم بنفسه عرضا ، وهذا بيان برهاني مشاهد. ووجدنا الجسم تتعاقب عليه الألوان والجسم قائم بنفسه ، فبينما تراه أبيض صار أخضر ، ثم أحمر ، ثم أصفر ، كالذي نشاهده في الثمار والأصباغ ، فبالضرورة نعلم أنّ الذي عدم وفني من البياض والخضرة وسائر الألوان هو غير الذي بقي موجودا لم يفن ، وأنهما جميعا غير الشيء الحامل لهما ، لأنه لو كان شيء من ذلك هو الآخر