وإنما تقع حاسة الشم على الرائحة ، فإن كان في شيء مما ذكرنا رائحة وقعت عليها حينئذ حاسّة الشم ، وعلمت حامل الرائحة حينئذ بتوسط الرائحة وإلا فلا ، وإن كان لشيء مما ذكرنا طعم وقعت عليه حينئذ حاسّة الذوق وعلمت المذوق بتوسط الطعم وإلا فلا ، وإن كان في شيء مما ذكرنا مجسة وقعت عليها حاسة اللّمس حينئذ وعلمت الملموس حينئذ بتوسط المجسة وإلا فلا.
وقالوا : إن من خاصة الجسم أن يقبل التجزؤ ، وإذا جزئ خرج منه الجزء الصغير والكبير ، ولم يكن الجزء الصغير كالجزء الكبير ، فلا يخلو حينئذ من أحد أمرين : إما أن يكون كل جزء منها نفسا فيلزم من ذلك ألا تكون النفس نفسا واحدة ، بل تكون حينئذ أنفسا كثيرة مركبة من أنفس ، وإما أن لا يكون كل جزء منها نفسا فيلزم أن لا يكون كلها نفسا.
قال أبو محمد : أما قولهم إن خاصة الجسم احتمال التجزؤ فهو صدق ، والنفس محتملة للتجزؤ لأنها جسم من الأجسام. وأما قولهم إن الجزء الصغير ليس كالكبير فإن كانوا يريدون في المساحة فنعم ، وأما في غير ذلك فلا ، وأما قولهم : إنها إن تجزأت فإما أن يكون كل جزء منها نفسا وإلزامهم من ذلك أنها مركبة من أنفس فإن القول الصحيح في هذا أن النفس محتملة للتجزؤ بالقوة ، وإن كان التجزؤ بانقسامها غير موجود بالفعل. وهكذا القول في الفلك والكواكب ، كل ذلك محتمل للتجزؤ بالقوة ، وليس التجزؤ موجودا في شيء منها بالفعل. وأما قولهم إنها مركبة من أنفس فشغب فاسد ، لأننا قد قدمنا في غير موضع أن المعاني المختلفة والمسمّيات المتغايرة يجب أن يوقع على كل واحد منها اسم يبين به عن غيره ، وإلا فقد وقع الإشكال وبطل التفاهم ، وصرنا إلى قول السوفسطائية المبطلة لجميع الحقائق. ووجدنا العالم ينقسم قسمين : أحدهما : مؤلف من طبائع مختلفة فاصطلحنا على أن سمينا هذا القسم مركبا والثاني : مؤلف من طبيعة واحدة ، فاصطلحنا على أن سمينا هذا القسم بسيطا ليقع التفاهم في الفرق بين هذين القسمين ، ووجدنا القسم الأول لا يقع على كل جزء من أجزائه اسم كلّه كالإنسان الجزئيّ فإنه متألف من أعضاء لا يسمى شيء منها إنسانا كالعين والأنف واليد وسائر أعضائه التي لا يسمى عضو منها على انفراده إنسانا ، فإذا تألفت سمّي المتألف منها إنسانا. ووجدنا القسم الثاني يقع على كل جزء من أجزائه اسم كلّه كالأرض والماء وكالهواء والنار وكالفلك ، فكل جزء من النار نار ، وكل جزء من الماء ماء ، وكل جزء من الهواء هواء وكل جزء من الفلك فلك ، وكل جزء من النفس نفس ، وليس ذلك موجبا أن تكون الأرض مؤلفة من أرضين ولا أن يكون الهواء