وقالوا : لو كانت النفس جسما لوجب أن يكون اتصالها بالجسم إما على سبيل المجاورة وإما على سبيل المداخلة وهي الممازجة.
قال أبو محمد : فبعد هذا ما ذا؟ ونعم فإن النفس متصلة بالجسم على سبيل المجاورة ولا يجوز سوى ذلك ، إذ لا يمكن أن يكون اتصال الجسمين إلا بالمجاورة ، وأما اتصال المداخلة فإنما هي بين العرض والعرض والجسم والعرض على ما بينا قبل.
وقالوا أيضا : إن كانت النفس جسما فكيف يعرف الجسم؟ أبمماسة أم بغير مماسة؟ قال أبو محمد : الأجسام كلها حاشا النفس موات لا علم لها ولا حس ولا تعلم شيئا وإنما العلم والحس للنفس فقط ، فهي تعلم الأجسام والأعراض وخالق الأجسام والأعراض الذي هو خالقها أيضا بما فيها من صفة الفهم وطبيعة التمييز وقوة العلم التي وضعها فيها خالقها عزوجل ، وسؤالهم بارد.
وقالوا أيضا : إن كل جسم بدأ في نشوة وغاية ينتهي إليها ، وأجود ما يكون الجسم إذا انتهى إلى غايته فإذا أخذ في النقص ضعف ، وليست الأنفس كذلك ، لأننا نرى أنفس المكتهلين أكثر ضياء وأنفذ فعلا ، ونجد أبدانهم أضعف من أبدان الأحداث ، فلو كانت النفس جسما لنقص فعلها بنقصان البدن ، فإذا كان هذا كما ذكرنا فليست النفس جسما.
قال أبو محمد : هذه مقدمة فاسدة الترتيب ، أما قولهم : إن الجسم أجود ما يكون إذا انتهى إلى غايته فخطأ إذا قيل على العموم ، وإنما ذلك في النوامي فقط وفي الأشياء التي تستحيل استحالة ذبوليّتة فقط ، كالشجر وأصناف أجساد الحيوان والنبات.
وأما الجبال والحجارة والأرض والبحار والهواء والماء والأفلاك والكواكب فليس لها غاية إذا بلغتها أخذت في الانحطاط ، وإنما يستحيل بعض ما يستحيل من ذلك على سبيل التفتت ، كحجر كسرته فانكسر ولو ترك لبقي ولم يذبل ذبول الشجر والنبات وأجسام الحيوان ، وكذلك النفس لا تستحيل استحالة ذبول ولا استحالة تفتت وإنما تستحيل أعراضها كما ذكرنا فقط ، ولا نماء لها ، وكذلك الملائكة والفلك والكواكب والعناصر الأربعة لا نماء لها ، وكل ذلك باق على هيئته التي خلقه الله تعالى عليها إذ خلق كل ذلك ، والنفس كذلك متنقلة من عالم الابتداء إلى عالم الابتلاء إلى البرزخ إلى عالم الحساب إلى عالم الجزاء ، فتخلد فيه أبدا بلا نهاية ، وهي إذا تخلصت من رطوبات الجسد وكدره كانت أصفى نظرا وحسا وأصح علما كما كانت قبل حلولها في الجسد نسأل الله خير ذلك المنقلب بمنه آمين