أنفسها بالجهل وكفت خصومها مئونتها في ذلك ، وليس جهل من جهل حجة على علم من علم ، ولا من لم يتبين له الشيء غبارا على من لم تبين له ، بل من علم فهو الحجة على من جهل ، هذا هو الذي لا يشك أحد فيه في جميع العلوم والصناعات ، وكل معلوم يعلمه قوم ويجهله قوم ويعلمه آخرون ، ولا أحمق ممن يقول لما جهلت أنا أمر كذا ولم أعرفه علمت أن كل أحد جاهل به كجهلي ، وهذه صفة هؤلاء القوم نفسها ، ولو ساغ هذا لأحد لبطلت الحقائق وجميع المعارف وجميع الصناعات إذ لكل شيء منها من يجهله من الناس ، نعم ومن لا ينجح فيه ولا يفهمه وإن طلبه ، هذا أمر مشاهد بالحواس ، فهم قد أقروا بالجهل وندّعي نحن العلم بحقيقة ما اعترفوا بجهلهم به.
فالواجب عليهم أن ينظروا في براهين المدعين للمعرفة بما جهلوا نظرا صحيحا متقصيا بغير هوى ، فلا بد يقينا من أن يلوح حقيقة قول المحقق والمحق ، وبطلان قول المبطل ، فتزول عنهم الحيرة والجهل حينئذ. فسقطت هذه المقالة بيقين والحمد لله رب العالمين.
وأما من قطع بأنه ليس هاهنا مذهب صحيح أصلا فإن قوله لها هو الفساد بيقين لا إشكال فيه لأنهم إذ أثبتوا حقيقة هذا العالم بما فيه ، وحقيقة ما يدرك بالحواس وبأول العقل وبديهته ، ثم لم يصححوا حدوثه ولا أزليته ، ولا أبطلوا حدوثه وأزليته معا ، ولم يصححوا أن له خالقا ولا أنه لا خالق له ، وأبطلوا كلا الأمرين ، وأبطلوا النبوة وأبطلوا إبطالها فقد خرجوا يقينا إلى المحال ، وإلى قبح قول السوفسطائية ، وفارقوا بدهية العقل وضرورته التي قد حققوها وصدقوا موجبها إذ لا خلاف بين أحد له مسكة عقل في أن كلّ ما لم يكن حقا فهو باطل ، وما لم يكن باطلا فإنه حق ، وأن اثنين قال أحدهما في قضية واحدة في حكم واحد نعم وقال الآخر لا ، فأحدهما صادق بلا شك والآخر كاذب بلا شك هذا يعلم بضرورة العقل وبديهته. وأما قول قائل هذا حق باطل معا من وجه واحد في وقت واحد ، أو قول من قال لا حق ولا باطل ، فهو بيّن باطل معلوم بضرورة العقل وبديهته ، فواجب بإقرارهم أن من قال : إن العالم لم يزل وقال الآخر بل هو محدث أن أحدهما صادق بلا شك ، وكذلك من أثبت النبوة ومن نفاها. فظهر بيقين وضرورة العقل فساد هذه المقالة ، إلا أن يبطلوا الحقائق ويلحقوا بالسوفسطائية فيكلمون حينئذ بما تكلم به السوفسطائية مما قد ذكرنا قبل وبالله تعالى التوفيق.
وأما من مال إلى اللذات جملة فإنه إن كان من إحدى هاتين الطائفتين فقد بطل عقده وصح يقينا أنه على ضلاله وخطأ وباطل وفساد في أصل معتقده الذي أداه