ذلك دليل عند أحد من العالم على أنه لا يجوز له فراق ذلك الخلق إلى ما هو خير منه ، ولا على أنه يلزمه لزوم المكان الذي خلق فيه والصناعة التي نشأ عليها والقوت الذي كبر عليه ، بل لا يختلف اثنان في أن له مفارقة ذلك المكان وتلك الصناعة وذلك المعاش إلى غيره ، وأنّ فرضا عليه الزوال عن كل ذلك إذا كان مذموما إلى المحمود من كل ذلك.
وأيضا فإن جميع الأديان التي أوجبها كلها هذا القائل وحقق جميعها فكل دين منها فيه إنكار غيره منها ، وأهل كل دين منها يكفر سائر أهل تلك الأديان وكلهم يكذب بعضهم بعضا ، وفي كل دين منها تحريم التزام غيره على كل أحد ، فلو كان كل دين منها لازما أن يعتقده من نشأ عليه لكان كل دين منها حقا ، وإذا كان كل دين منها حقا وكل دين منها يبطل سائرها وكل ما أبطله الحق فهو باطل بلا شك ، فكل دين منها باطل بلا شك.
فوجب ضرورة على قول هذا الجاهل أن جميع الأديان باطل ، وأن جميعها حق فجميعها حق باطل معا ، فبطل هذا القول بيقين لا شك فيه والحمد لله رب العالمين.
وأما من قال إني ألزم فعل الخير الذي اتّفقت الديانات والعقول على أنه فاضل ، وأجتنب ما اتفقت الديانات والعقول على أنه قبيح ، فقول فاسد مموّه مضحك.
أول ذلك أنه كذب وما اتّفقت الديانات ولا العقول على شيء من ذلك بل جميع الديانات إلا الأقل منها مجمعون على قتل من خالفهم وأخذ أموالهم ، وكل دين منها لا نحاشي دينا قائل بأحكام هي عند سائرها ظلم ، وأما المنّانية : فإنها وإن لم تقل بالقتل فإنها تقول بترك النكاح الذي هو مباح عند سائر الديانات ويقولون بإباحة اللياطة والسحاق وسائر الديانات محرّمة لذلك ، فما اتفقت الديانات على شيء أصلا ولا على التوحيد ولا على إبطاله ، لكن اتفقت الديانات على تخطئته وتكفيره والبراءة منه إذا لم يعتقد دينا مما بيناه ، فبطلب موافقة جميع الديانات حصل على مخالفة جميعها. وهكذا فليكن السعي المضلّل. وكذلك طبائع جميع الناس مؤثرة للّذّات كارهة لما يلتزمه أهل الشرائع والفلاسفة ، فبطل تعلقهم بشيء مجمع عليه ، ولم يحصل إلا على طمع خائب مخالفا لجميع الديانات ، غير متعلق بدليل لا عقليّ ولا سمعي. وقد قلنا إن العقول لا توجب شيئا ولا تقبحه ولا تحسنه ، وبرهان ذلك أن جميع أهل العقول إلا يسيرا فإنهم أصحاب شرائع وقد جاءت الشرائع بالقتل وأخذ المال وضرب الإنسان وذبح الحيوان ، فما قال قط أصحاب العقول إنما جاءت بخلاف ما في العقول ولا ادّعى ذلك إلا أقل