الناس ومن ليس عقله عيارا على عقل غيره ، ولو كان ذلك واجبا في العقول لوجده سائر أهل العقول كما قالوا هم سواء سواء ، فصح أن دعواهم على العقول كاذبة في باب التقبيح والتحسين جملة ، وهذا كسر عام لنفس أقوالهم والحمد لله رب العالمين.
ثم نذكر إن شاء الله عزوجل البراهين على إبطال حججهم الشغبية المموهة وبالله تعالى نتأيد.
قال أبو محمد : أما احتجاجهم بأن قالوا وجدنا أهل الديانات والآراء والمقالات كل طائفة تناظر الأخرى فتنتصف منها وربما غلبت هذه في مجلس ثم غلبتها الأخرى في مجلس آخر على حسب قوة المناظر وقدرته على البيان والتحيل والشغب فهم في ذلك كالمتحاربين يكون الظفر سجالا بينهم ، فصح أن ليس هاهنا قول ظاهر الغلبة ، ولو كان ذلك لما أشكل على أحد ، ولا اختلفت الناس فيه كما لم يختلفوا ما أدركوا بحواسهم وبداية عقولهم ، وكما لم يختلفوا في الحساب ولا في شيء عليه برهان لائح ، واللائح الحق على مرور الأزمان وكثرة البحث وطول المناظرات. قالوا : ومن المحال أن يبدو الحق إلى الناس ظاهرا فيعاندوه بلا معنى ويرضوا بالهلاك في الدنيا والآخرة بلا سبب. قالوا : فلما بطل هذا صح أن كل طائفة تتبع إمّا ما نشأت عليه وإمّا ما تخيل لأحدهم أنه الحق دون تثبت ولا يقين. قالوا : وهذا مشاهد من كل أمة ونحلة وإن كان فيها ما لا يشك في بطلانه وسخافته.
قال أبو محمد : هذه جمل نحن نبين كل عقدة منها ونوفيها حقها من البيان بتصحيح أو إفساد بما لا يخفى على أحد صحته وبالله تعالى التوفيق.
أما قولهم : إن كل طائفة من أهل الديانات والمقالات والآراء تناظر فتنتصف وربما غلبت هذه في مجلس ثم غلبتها الأخرى في مجلس آخر ، على قدر قوة المناظر وقدرته على البيان والتحيل والشغب والتمويه ، فنقول صحيح إلا أنه لا حجة لهم فيه على ما ادّعوه من تكافؤ الأدلة أصلا ، لأن غلبة الوقت ليست حجة ولا يقنع بها عالم محقق وإن كانت له ولا يلتفت إليها وإن كانت عليه ، وإنما يحتج بها ويغضب منها أهل المحرفة والجهّال ، وأهل الصياح والتهويل والتشنيع ، القانون بأن يقال غلب فلان فلانا ، وإن فلانا لنظار جدّال ، ولا يبالون بتحقيق حقيقة ولا بإبطال باطل. فصح أن تغالب المتناظرين لا معنى له ولا يجب أن يعتد به ، لا سيما تجادل أهل زماننا الذي أمالهم إرب معدودة لا يتجاوزونها بكلمة ، وأما أن يغلب الصليب الرأس بكثرة الصياح والتوقح والتشنيع والجفاء ، وأما كثير الهذر قوي على أن يملأ المجلس كلاما لا