يتحصل منه معنى ، وأما الذي يعتقد أهل التحقيق الطالبون معرفة الأمور على ما هي عليه فهو أن يبحثوا فيما يطلبون معرفته عن كلّ حجة احتج بها أهل فرقة في ذلك الباب ، فإذا تقصّوها ولم يبقوا منها شيئا تأمّلوها كلها حجة حجة فميّزوا الشغبي منها والإقناعي فاطرحوهما ، وفتشوا البراهين على حسب المقدمات التي بيناها في كتابنا الموسوم : «بالتقريب في ماهية البرهان ، وتمييزه مما يظن أنه برهان وليس ببرهان» وفي كتابنا هذا ، وفي كتابنا الموسوم «بالإحكام في أصول الأحكام» فإن من سلك الطريق التي ذكرنا وميز في المبدأ ما يعرف بأول التمييز والحواس ثم ميّز ما هو البرهان مما ليس برهانا ، ثم لم يقبل إلا ما كان برهانا راجعا رجوعا صحيحا ضروريا إلى ما أدرك بالحواس أو ببديهة التمييز وضرورته في كل مطلوب يطلبه ، فإن شارع الحق يلوح له واضحا ممتازا من كل باطل دون إشكال ، والحمد لله رب العالمين.
وأما من لم يفعل ما ذكرنا ولم يكن وكده إلا نصر المسألة الحاضرة فقط ، أو نصر مذهب قد ألفه قبل أن يقوده إلى اعتقاده برهان فلم يجعل غرضه إلا طلب أدلة ذلك المذهب فقط ، فبعيد عن معرفة الحق من الباطل ، ومثل هؤلاء غرّر هؤلاء المخاذيل فظنوا أن كل بحث ونظر فمجراهما المجرى الذي عهدوه ممن ذكرنا فضلّوا ضلالا بعيدا.
وأما قولهم : فصح أنه ليس هاهنا قول ظاهر الغلبة ولو كان ذلك لما أشكل على أحد ، ولما اختلف الناس فيه ، كما لم يختلفوا فيما أدركوه بحواسهم وبداية عقولهم ، وكما لم يختلفوا في الحساب وفي كل ما عليه برهان لائح ، فقول أيضا مموه ، لأنه كله دعوى فاسدة بلا دليل ، وقد قلنا قبل في إبطال هذه الأقوال كلها بالبرهان بما فيه كفاية ، وهذا لا يمكن فيه تفصيل كل برهان على كل مطلوب لكن نقول جملة إن من عرف البرهان وميّزه وطلب الحقيقة غير مائل بهوى ولا إلف ولا نفار ولا كسل ، فمضمون له تمييز الحق ، وهذا كمن سأل عن البرهان على إشكال أقليدس فإنه لا سبيل إلى جوابه عن جميعها بقول مجمل ، لكن يقال له سل عن شكل شكل تخبر ببرهانه ، أو كمن سأل ما النحو؟ وأراد أن يوقف على قوانينه جملة فإن هذا لا يمكن بأكثر من أن يقال له هو بيان حركات وحروف يتوصل باختلافها إلى معرفة مراد المخاطب باللغة العربية ، ثم لا يمكن توقيفه على حقيقة ذلك ولا إلى إثباته جملة إلا بالأخذ معه في مسألة مسألة.
وهكذا في هذا المكان الذي نحن فيه ، لا يمكن أن نبين جميع البرهان على