الكلام في الألوان
قال أبو محمد : الأرض غبراء ، وفيها حمراء وفيها بيضاء وصفراء وخضراء وسوداء وموشاة ، والماء أبيض إلا أن يكتسب لونا بما استضافه إليه لفرط صفائه ، فيكتسب لون إنائه أو ما هو فيه. وإنما قلنا إنه أبيض لبراهين ، أحدها : أنه إذا صب في الهواء بهر وظهر أبيض صافي البياض ، والثاني أنه إذا جمد فصار ثلجا أو بردا ظهر أبيض شديد البياض. وأما الهواء فلا لون له أصلا ، ولذلك لا يرى لأنه لا يرى إلا اللون ، وقد زعم قوم أنه إنما لا يرى لانطباقه على البصر وهذا فاسد جدّا ، وبرهان ذلك أن المرء يغوص في الماء الصافي ويفتح عينيه فيه فيرى الماء وهو منطبق على بصره لا حائل بينهما ، ولا يرى الهواء في تلك الحال ، وإن استلقى على ظهره في الماء وهذا أمر مشاهد ، وأما الذي يرى عند دخول خط ضياء الشمس من كوة فإنما هو أن الأجسام تنحل منها أبدا أجزاء صغار وهي التي تسمى الهباء فإذا انحصر خط ضياء الشمس وقع البصر على تلك الأجزاء الصغار وهي متكاثفة جدا ولونها الغبرة فهي التي ترى لا ما سواها ، ومن تأمل هذا عرفه يقينا ، وأن البيوت مملوءة من ذلك الهباء المنحل من الأرض والثياب والأبدان وسائر الأجرام ، ولكن لدقتها لا ترى إلا إن انحصر خط الشمس فيرى ما في ذلك الانحصار منها فقط ، وأما النار فلا ترى أيضا لأنه لا لون لها في فلكها ، وأما المرئية عندنا في الحطب والفتيلة وسائر ما يحترق فإنما هي رطوبات ذلك المحترق تستحيل هواء فيه نارية فتكتسب ألوانا بمقدار ما تعطيها طبيعتها فتراها خضراء ولازورديّة وحمراء وبيضاء وصفراء وبالله تعالى التوفيق. وهذا يعرض للرطوبات المتولد منها دائرة قوس قزح.
قال أبو محمد : أجمع جميع المتقدمين بعد التحقيق بالبرهان أنه لا ترى إلّا الألوان ، وأن كل ما يرى فليس إلا لونا ، وحدّوا بعد ذلك البياض بأنه لون يفرّق البصر ، وحدّوا السواد بأنه لون يجمع البصر.
قال أبو محمد : وهذا حدّ وقعت فيه مسامحة وإنما خرّجوه على قول العامة في لون السواد ، ومعنى يجمع البصر أنه يقبضه في داخل الناظر ويمنع من انتشاره ومن