فيها بالماء والشجر قرى متواصلة وكان متجرهم من أرض اليمن إلى الشام وكانوا يبيتون بقرية ويقيلون بأخرى حتى يرجعوا. وكانوا لا يحتاجون إلى حمل زاد من وادي سبأ إلى الشام. فمعنى الظاهرة أن الثّانية كانت ترى من الأولى لقربها منها (وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ) أي وجعلنا السّير من قرية إلى أخرى مقدارا واحدا وهو نصف يوم وقلنا لهم (سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ) أي ليلا شئتم المسير أو نهارا بلا خوف عليكم بل مأمونون من الجوع والعطش والسّباع واللّص وكلّ المخاوف والمضارّ ، وهذا يدل على تكامل النّعمة عليهم سفرا وحضرا ونقلوا أن أهل سبأ أخذوا في التجارة حتّى الفقراء منهم حيث إنهم رأوا أنه ليس في متجرهم أي تعب ولا عناء ، فكانوا يصبحون في قرية ويمسون في أخرى في ظلّ الأشجار المثقلة بالفواكه بأقسامها فحسد الأغنياء الفقراء كما أخبر سبحانه أنّهم أخذوا في الكفران وبطروا وبغوا فحكى عنهم :
١٩ ـ (فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا ...) أي أشروا وبطروا النعمة وملّوا العافية فسأل الأغنياء الله أن يجعل بينهم وبين الشام مفاوز وأودية وأراضي خالية من الأشجار والزروع ليتطاولوا على الفقراء بركوب الرواحل وحمل الأزواد. وهذا كما كان في بني إسرائيل لما ملّوا النعم فقالوا : أخرج لنا ممّا تنبت الأرض من بقلها بدلا من المنّ والسّلوى (وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) بالكفر والبطر (فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ) لمن بعدهم فاتّخذوهم مثلا : يقال تفرّقوا أيدي سبأ أو أيادي سبا ، ويتحدثون بأمرهم وشأنهم ويضربون لهم المثل (مَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ) أي فرّقناهم وشتّتناهم كلّ تفريق وتشتيت حتى لحق غسّان منهم بالشام ، وأنمار بيثرب ، وجذام بتهامة ، والأزد بعمان إلى آخرهم (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي هذا المذكور من قصّة سبأ (لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) أي فيها عبر لمن يصبر على الشدائد أو عن المعاصي ويشكر كثيرا على النّعم.
٢٠ ـ (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ ...) الضّمير في عليهم إمّا أنه