وجميع ذلك عند عالم الأمر فلا يعلمها إلّا الله كما أشار إليه سبحانه في الشريفة (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) أي بجميع جهاتها. ويستفاد من هذه الآية أنّ مسألة الرّوح بجميع شؤونها وعلمها مختصّة بذاته المقدّسة وليس للبشر حق مداخلة وتصرف في أيّ جهة من الجهات الرّاجعة إليها لأن كلّ معنى من المعاني نتصوّره ونميّزه لها فهو مصداق من مصاديق قول مولانا رئيس العارفين في باب معرفة الله تعالى : كلّ ما ميّزتموه بأوهامكم فهو مخلوق لكم مردود إليكم. فنحن كل ما نتصوره من المعاني للروح وشؤونها فهو مخترع لنا مردود إلينا (فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ) أي خرّوا ساجدين سجدة تكرمة وتعظيم له عليهالسلام ، لا سجدة عبودية له فإنها خصيصة له تعالى وتقدّس ولا تجوز لغيره. وقد مرّ الكلام فيه في سورة البقرة بأبسط مما قلنا هنا ثم إنّ الملائكة كانوا منتظرين لهذه الدّعوة إلى أن تمّت الخلقة من حيث الأعضاء والجوارح وتعلّق الروح فتوجّه أمر الله بالسّجود له عليهم. وأمّا إنّ المأمور بذلك السّجود هو ملائكة السّماوات جميعا أو دخل فيه ملائكة الأرض ففيه بحث عميق لا يسعه هذا المختصر.
٧٣ و ٧٤ ـ (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ ...) تأكيدان يدلّان أنّ الملائكة لم يبق منهم أحد إلّا وقد سجد كما أمروا ، تكرمة لآدم وطاعة لله تعالى (إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ) أي ترفّع وتعاظم (وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ) أي في علمه تعالى لأنه كان ذا تكبّر وتفخّم طبعا ، وكان مخاصما له تعالى في كبريائه وعظمته ، فكان في علمه جلّ وعلا مردودا فلما أمره سبحانه بالسّجود لآدم أظهر كفره ونخوته باستكباره وامتناعه عن السّجود مع أن مثل جبرائيل وإسرافيل وسائر المقرّبين من الملائكة بتمامهم سجدوا في مرآه ومشهده وكانوا أعلى منه مقاما ودرجة فكان هذا الأمر إجلالا للبعض من الملأ الأعلى وامتحانا واختبارا للآخرين.
* * *