مبالغة في التحذير وإظهار للإنصاف وعدم التعصّب ، ولذلك قدّم كونه كاذبا (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ) هذا يمكن أن يكون احتجاجا ثالثا ذا وجهين : أحدهما لو كان مسرفا كذّابا لما هداه الله الى البيّنات ولما أجرى تلك البيّنات على يديه لأن فيه إغراء الناس بمن ليس بأهل. والثاني : إن من خذله الله وأهلكه فلا حاجة بكم إلى قتله. ولعلّه أراد به المعنى الأوّل ، وخيّل إليهم الثاني لتلين شكيمتهم وعرّض به بفرعون أنّه مسرف كذّاب لا يهديه الله سبيل الصّواب.
٢٩ ـ (يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ...) لمّا بيّن على وجه التلطّف أنّه لا يجوز الإقدام على قتل موسى عليهالسلام ولا يجوز التكذيب على الله تعالى بادّعاء الإلهية الكاذبة ، خوّفهم عذاب الله وبأسه فقال : أنتم اليوم قد علوتم الناس وأنتم أهل سلطان مصر وما والاه ، فلا تفسدوا أمركم ولا تتعرّضوا لبأس الله وعذاب الله فابقوا (ظاهِرِينَ) أي غالبين عالين (فِي الْأَرْضِ) أي مصر وتوابعها (فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللهِ إِنْ جاءَنا) إنما أدرج نفسه فيهم في الحوادث ليريهم أنه معهم ومساهمهم فيما ينصح لهم. وهذا البيان وهذه المواعظ بهذه الكيفية تكشف عن غاية فطانته وكمال معرفته وقدرته على الخطابة والنّصح المؤثّر بحيث أقنع فرعون وأتباعه الذين كانوا معه في العقيدة ، فانصرفوا عن قتل موسى و (قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلَّا ما أَرى) أي ما أشير عليكم وما أدلّكم إلّا على الطريق التي أراها صوابا لي ولكم ، وأنا الصّلاح في قتل موسى (وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ.) أى ما أدلكم إلا على ما فيه رشدكم وصلاحكم. ولا ريب أن فرعون كان كاذبا في قومه لأنه كان مستيقنا بنبوة موسى وصحة آياته ولذا كان خائفا منه باطنا خوفا عظيما ، إلّا أنّه يظهر في الناس خلاف ما في باطنه ويتجلّد حتى لا يطّلع على باطن أمره أحد من خواصّه ، والدليل على ذلك انه مع كونه سفاكا قتّالا في أهون شيء بلا مشاورة أحد إلّا في أقل