وأيضا : فما الحكمة في تقديم ذكر الليل مع أن النهار أشرف من الليل؟ فيقال إن الليل والنوم في الحقيقة طبيعة عدميّة في الجملة فهو غير مقصود كما أن الظلمة طبيعة عدميّة والنور طبيعة وجوديّة والعدم في المحدثات مقدّم على الوجود كما قال سبحانه (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) وأما الجواب عن الإتيان بالاسم دون الفعل فقال بعض الأفاضل : من فنّ علم النحو في كتاب دلائل الإعجاز أن دلالة صيغة الاسم على الكمال أقوى من دلالة الفعل عليه ، فهذا هو السبب في هذا المقام. ولمّا ذكر سبحانه بأن القيامة حق وصدق ولا ينتفع العباد فيها إلّا بالطاعة لله تعالى فلذا أمر بالدّعاء لأنه أشرف أنواع الطاعات عقلا ونقلا وكتابا وسنّة ، ولا بدّ أن يكون الداعي ذا معرفة بدلائل معرفة الآيات الآفاقيّة والفلكيّة مثل وجود اللّيل والنهار اللّذين يدلّان على ذاته ووجود الصّانع تعالى وتعاقبهما الذي يدلّ أيضا على الصّانع العليم القدير وكمال تدبيره وحكمته. ولما بيّن سبحانه الدلائل المذكورة على وجوده وقدرته وسائر أوصافه الكماليّة قال تعالى :
٦٢ ـ (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ...) قال صاحب الكشّاف (ذلِكُمُ) أي المعلوم المميّز بالأفعال الخاصّة التي لا يشاركه فيها أحد ، هو الله ربّكم خالق الأشياء جميعا (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) هذه جمل خبريّة مترادفة دالّة على أنّه الجامع لهذه الأوصاف من الإلهيّة والرّبوبيّة والخالقيّة والوحدانيّة الأحديّة. وهذا تعريف لا يتصوّر فوقه تعريف لذاته المقدّسة ولذا يقول (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) أي فكيف تنصرفون وتعرضون عنه وعن عبادته مع وضوح الدّلائل على ذاته وتوحيده واستحقاقه للعبادة دون غيره؟ والحاصل أن الحجّة تامّة على جميع الخلق وليس لأحد عذر.
٦٣ ـ (كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا ...) أي كما أنكم انصرفتم وأعرضتم عن دين الإسلام ، هكذا ينصرف ويعرض كلّ من يجحد وينكر آيات الله ، أي أن رؤساءهم يصرفونهم عن الآيات ويردّونهم إلى غير دين الحق. ثم