قلنا : فائدته تخيير النبي عليه الصلاة والسلام بين الحكم بينهم وعدمه ، ليعلم أنه لا يجب عليه أن يحكم بينهم كما يجب عليه ذلك بين المسلمين إذا تحاكموا إليه ؛ وقيل إن هذا التخيير منسوخ بقوله تعالى : (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) [الآية ٤٨] وهو القرآن يدل عليه قوله تعالى : (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ) [الآية ٤٨] ، أي في الحكم بالتوراة.
فإن قيل : لما أنزل الله القرآن صار الإنجيل منسوخا به ، فكيف قال تعالى : (وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ) [الآية ٤٧]؟
قلنا : هو عام مخصوص : أي ما أنزل الله فيه من صدق نبوة محمد عليه الصلاة والسلام بعلاماته المذكورة في الإنجيل ، وذلك غير منسوخ.
فإن قيل : لم قال تعالى : (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ) [الآية ٤٩] مع أن الكفار معاقبون بكل ذنوبهم؟
قلنا : أراد به عقوبتهم في الدنيا ، وهو ما عجله من إجلاء بني النّضير وقيل بني قريظة وذلك جزاء بعض ذنوبهم لأنه جزاء منقطع ، وأما جزاؤهم على شركهم فهو جزاء دائم لا يتصور وجوده في الدنيا وقيل أراد بذلك البعض ذنب التولي عن الرضا بحكم القرآن ، وإنما أبهمه تفخيما له وتعظيما.
فإن قيل : حسن حكم الله وصحته أمر ثابت على العموم بالنسبة إلى الموقنين وغير الموقنين ، فكيف قال تعالى : (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (٥٠).
قلنا : لما كان الموقنون أكثر انتفاعا به من غيرهم ، بل هم المنتفعون به في الحقيقة لا غير ، كانوا أخص به ، فأضيف إليهم لذلك ، ونظيره : قوله تعالى : (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها) (٤٥) [النازعات].
فإن قيل : قوله تعالى (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) [الآية ٥١] يقتضي أن يكون من وادّ أهل الكتاب وصادقهم كافرا وليس كذلك لقوله تعالى : (لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ) [الممتحنة / ٨].
قلنا : المراد بقوله تعالى (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ) : المنافقون ، لأنها نزلت في شأنهم وهم كانوا من الكفار في الدنيا ضميرا واعتقادا ، ومعناه أنه منهم في الآخرة جزاء ، وعقابه أشد.