يقتضي تعلّق الرخاء وسعة الرزق بالإيمان بالكتاب والعمل بما فيه ، وليس كذلك فإن كثيرا من المؤمنين بالكتب الأربعة العاملين بما فيها ما لم ينسخ ، عيشهم في الدنيا منكد ورزقهم مضيّق.
قلنا : هذا التعليق خاص بحق أهل الكتب ، لأنهم اشتكوا من ضيق الرزق حتى قالوا (يد الله مغلولة) فأخبرهم الله تعالى أن ذلك التضييق عقوبة لهم بشؤم معاصيهم وكفرهم ، والله تعالى يجعل ضيق الرزق وتقديره نعمة في حق بعض عباده ، ونقمة في حق بعضهم ، وكذلك الرخاء والسعة فيعاقب بهما على المعصية ، ويثيب بهما على الطاعة ، ويختلف ذلك باختلاف أحوال الأشخاص ، فلا يلزم من توسيع الرزق الإكرام ، ولا من تضييقه الإهانة ولا يلزم عكسه أيضا ، ولهذا رد الله تعالى ذلك بقوله (فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ) [الفجر / ١٥] إلى قوله تعالى : (كَلَّا) [الفجر / ١٧] أي ليس الأمر كما ظن الإنسان وزعم من أن توسيع الرزق دليل الكرامة ، وتضييقه دليل الإهانة ، بل دليل الكرامة هو الهداية والتوفيق للطاعات ، ودليل الإهانة هو الإضلال وحرمة التوفيق.
فإن قيل : ما فائدة قوله تعالى (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ) [الآية ٦٧]. ومعلوم أنه إذا لم يبلغ المنزل إليه لم يكن قد بلغ الرسالة؟
قلنا : المراد حثه على تبليغ ما أنزل عليه من معايب اليهود ومثالبهم. فالمعنى بلغ الجميع ، فإن كتمت منه حرفا كنت في الإثم والمخالفة كمن لم يبلغ شيئا البتة ، فجعل كتمان البعض ككتمان الكل. وقيل أمر بتعجيل التبليغ كأنه (ص) كان عازما على تبليغ جميع ما نزل إليه ، إلا أنه أخر تبليغ البعض خوفا على نفسه وحذرا مع عزمه على تبليغه في ثاني الحال ، فأمر بتعجيل التبليغ ، يؤيد هذا القول قوله تعالى : (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ).
فإن قيل : كيف ضمن الله تعالى لرسوله العصمة بقوله (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) ، ثم إنه (ص) شجّ وجهه يوم أحد وكسرت رباعيته؟
قلنا : المراد به العصمة من القتل لا من جميع الأذى ، فإن جميع العصمة من جميع المكاره لا تناسب أخلاق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لأنهم