هذا النوع من التكرير نكتة لا تلفى إلّا في الكتاب العزيز ... وذاك أن المعهود في أمثال هذا التكرير أن الكلام إذا بني على مقصد ، واعترض في أثنائه عارض ، فأريد الرجوع لتتميم المقصد الأول ، وقد بعد عهده ، طرّي بذكر المقصد الأول لتتصل نهايته ببدايته ، وقد تقدّم لذلك في الكتاب العزيز أمثال ، وهذا منها ، فإنه لما ابتدأ الكلام بقوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها) ، ثم ، اعترض ذكر الجواب المضمّن في قوله سبحانه : (قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي) ، إلى قوله (بَغْتَةً) ، أريد تتميم سؤالها عنها بوجه من الإنكار عليهم ، وهو المضمّن في قوله جلّ وعلا : (كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها) وهو شديد التعلق بالسؤال ، وقد بعد عهده فطرّي ذكره تطرية عامة ؛ ولا نراه أبدا يطرى إلا بنوع من الإجمال ، كالتذكرة للأوّل مستغنى عن تفصيله بما تقدّم ، فمن ثمّ قيل : (يَسْئَلُونَكَ) ، ولم يذكر المسؤول عنه وهو الساعة ، اكتفاء بما تقدم ، فلما كرّر السؤال لهذه الفائدة ، كرّر الجواب أيضا مجملا ، فقيل : (قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ).
أقول : واستعمال «حفيّ» في العربية المعاصرة يكون بتطلّبه الباء حرف جر بعده ، فيقال : هو حفيّ بما فاز به.
٤٥ ـ وقال تعالى : (قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ) (١٩٥).
قوله تعالى : (فَلا تُنْظِرُونِ) بكسر النون ، اجتزئ بالكسرة عن الياء.
لم يكن ذلك من خطّ المصحف الذي جرى على نمط خاص ، وإنما كان ذلك لسبب صوتي ، هو أنّ أواخر الآيات قد ختمت بالنون في الأسماء والأفعال نحو الشاكرين وصامتين والصالحين ويؤمنون ويشركون وغيرها ؛ وإنما حرّكت النون في هذه الآية بالكسرة ، كي يستغنى عنها عند الوقف على آخر الآية ، فتكون كسائر الفواصل الأخرى ؛ ولا يتأتّى ذلك ، لو أثبتت الياء. وإذا كان هذا هو السبب في حذف الياء والاستغناء عنها بالكسرة ، فما السبب في حذف الياء في الذي يسبق قوله تعالى : (فَلا تُنْظِرُونِ) ، وهو قوله سبحانه : (كِيدُونِ)؟ الجواب عن هذا : أن الياء حذفت استحسانا لتأتي الكلمة مشاكلة للكلمة الأخرى التي ختمت بها الآية قوله : (فَلا تُنْظِرُونِ).
والمشاكلة في الأصوات كثيرة في لغة التنزيل ، وهي تؤدي غرضا صوتيا