رحمة الله لعبده زكريّا ، وهو يناجي ربه نجاء خفيا.
فتصوّر أحاسيس ذلك الشيخ الهرم ورغبته في الذّرّيّة والولد ودعاءه لله خفية ، بعيدا عن زوجته وعن الناس.
ثم ترسم لحظة الاستجابة في رعاية وعطف ورضيّ. فالله ينادي عبده من الملأ الأعلى (يا زَكَرِيَّا) ، ويعجّل له البشرى : (إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ).
ويغمره بالعطف فيختار له اسم الغلام الذي بشّره به (اسْمُهُ يَحْيى) [الآية ٧]. وهو اسم فذّ غير مسبوق : (لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا) (٧).
وكأنما أفاق زكريّا ، من غمرة الرغبة وحرارة الرجاء ، على هذه الاستجابة القريبة للدعاء ، فإذا هو يواجه الواقع : إنه رجل شيخ ، بلغ من الكبر عتيّا ، ووهن عظمه واشتعل شيبه ، وامرأته عاقر لم تلد في فتوّته وصباه : فكيف سيكون له غلام؟
(قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا) (٨).
ثم يأتيه الجواب عن سؤاله : بأنّ هذا أمر هيّن يسير أمام قدرة الله ، فهو سبحانه الخالق الفعّال لما يريد. وهو سبحانه الذي جعل العاقر لا تلد. وجعل الشيخ الفاني لا ينسل. وهو قادر على إصلاح العاقر ، وإزالة سبب العقم ، وتجديد قوّة الإخصاب في الرجل ، وهو على كلّ شيء قدير.
وتمّت ولادة يحيى ، وكبر وترعرع ، وأحكم الله عقله ، وهيّأه لرعاية ميراث أبيه في حزم وعزم ؛ ولم يكن هذا الميراث مالا أو عقارا ، وإنما كان رسالة الهدى ، ودعوة الإيمان ؛ وناداه الله سبحانه :
(يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ) [الآية ١٢].
والكتاب هو التوراة كتاب بني إسرائيل من بعد موسى (ع) ، وعليه كان يقوم أنبياؤهم ، يعملون به ويحكمون. وقد نودي يحيى (ع) ليحمل العبء وينهض بالأمانة في قوة وعزم. لا يضعف ولا يتهاون ولا يتراجع عن تكاليف الوراثة.
وقد زود الله يحيى بالحكمة في صباه ، ووهبه الحنان والعطف لتأليف القلوب واجتذابها إلى الخير ، وآتاه الطهارة والتقوى فكان موصولا بالله ،