الجبال هاهنا. وقد قيل في ذلك وجه آخر ، يخرج به الكلام من حدّ الاستعارة. وهو أن يكون قوله تعالى : (يُسَبِّحْنَ) هاهنا مأخوذا من التسبيح ، وهو الإبعاد في السير ، والتصرّف في الأرض. لا من التسبيح المعروف. فكأنه تعالى قال : وسخّرنا مع داود الجبال يسرن في الأرض معه ، ويتصرّفن على أمره ، طاعة له. ونظير ذلك قوله سبحانه في «سبأ» : (يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ) [سبأ : ١٠] أي سيري معه. والتأويب السير.
وإنما قال تعالى : (يُسَبِّحْنَ) عبارة عنها ، بتكثير الفعل من السّبح.
وقال سبحانه : (إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً) (٧) [المزّمّل] أي تصرّفا ومتّسعا ، ومجالا ومنفسحا.
وقوله سبحانه : (وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا) [الآية ٩١]. وهذه استعارة. والمراد هاهنا بالرّوح : إجراء روح المسيح (ع) ، في مريم (ع) ، كما يجري الهواء بالنّفخ. لأنه حصل معها من غير علوق من ذكر ، ولا انتقال من طبق الى طبق. وأضاف تعالى الروح إلى نفسه ، لمزيّة الاختصاص بالتعظيم ، والاصطفاء بالتكريم. إذ كان خلقه المسيح (ع) ، من غير توسّط مناكحة ، ولا تقدّم ملامسة.
وقوله سبحانه : (وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ) (٩٣). وهذه استعارة. والمراد بها : أنهم تفرّقوا في الأهواء ، واختلفوا في الآراء ، وتقسّمتهم المذاهب ، وتشعّبت بهم الولائج (١). ومع ذلك فجميعهم راجعون إلى الله سبحانه ، على أحد وجهين : إمّا أن يكون ذلك رجوعا في الدنيا ، فيكون المعنى : أنهم ، وإن اختلفوا في الاعتقادات ، صائرون إلى الإقرار بأنّ الله سبحانه خالقهم ورازقهم ، ومصرّفهم ومدبّرهم. أو يكون ذلك رجوعا في الاخرة ، فيكون المعنى : أنّهم راجعون إلى الدار التي جعلها الله تعالى مكان الجزاء على الأعمال ، وموفى الثواب والعقاب ؛ وإلى حيث لا يحكم فيهم ، ولا يملك أمرهم ، إلا الله سبحانه.
وشبّه تخالفهم في المذاهب ،
__________________
(١). الولائج : جمع وليجة ، وهي بطانة الإنسان ، ومن يتّخذه معتمدا عليه من غير أهله.