المبحث الثالث
أسرار ترتيب سورة «الروم» (١)
أقول : ظهر لي في اتّصالها بما قبلها ، أن سورة العنكبوت ختمت بقوله تعالى : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) [العنكبوت ٦٩].
فافتتحت هذه بوعد من غلب من أهل الكتاب بالغلبة والنصر ، وفرح المؤمنين بذلك ، وأنّ الدولة لأهل الجهاد فيه ، ولا يضرهم ما وقع لهم قبل ذلك من هزيمة (٢).
هذا مع تأخيها بما قبلها في المطلع ، فإنّ كلّا منهما افتتح ب (ألم) غير معقّب بذكر القرآن ، وهو خلاف القاعدة الخاصة بالمفتتح بالحروف المقطّعة ، فإنها كلّها عقّبت بذكر الكتاب أو وصفه ، إلّا هاتين السّورتين وسورة القلم ، لنكتة بيّنتها في «أسرار التنزيل» (٣).
__________________
(١). انتقي هذا المبحث من كتاب : «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي ، تحقيق عبد القادر أحمد عطا ، دار الاعتصام ، القاهرة ، الطبعة الثانية ، ١٣٩٨ ه : ١٩٧٨ م.
(٢). وذلك في قوله تعالى : (غُلِبَتِ الرُّومُ (١) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ) الى قوله تعالى (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللهِ) [الآيات ٢ ـ ٥].
(٣). ذكر المؤلّف في المقدّمة : أنه ألّف هذا الكتاب الموسوعي ، ولم نعثر عليه في قوائم المخطوطات ، وأشار اليه في الإتقان : ١ : ٢٨١ ، ٣ : ٣٦٩.
والذي نراه في سبب عدم افتتاح العنكبوت والروم بالكتاب أو وصفه ، والله أعلم : أنّه لمّا تكرّر الحديث عن الكتاب عقب الحروف المقطّعة ، وأنه من عند الله ، وهدى للمتقين ، وتنزيل من رب العالمين ، كان لا بد من ابتلاء المصدّقين به حتّى ينعزل المنافقون عن المؤمنين ، ويظهر الصادق في إيمانه من الكاذب ، وهذا بمثابة الاختبار العملي لاستجابة الناس لأمر الكتاب ، ولا سيّما وأن ثمّة حملة تشكيك أثارها الكفّار ضد الايمان. ولذا قال تعالى في العنكبوت : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللهِ وَلَئِنْ جاءَ ـ