الثانية : وهى تتصل برسم المصحف وبقائه عهدا غير منقوط ولا مشكول إلى زمن عبد الملك ، حتى قام الحجاج بإسناد هذا العمل إلى رجلين ، هما : يحيى بن يعمر ، والحسن البصرى ، فنقطاه وشكلاه.
وما نرى صحيحا هذا الذى ذهب إليه القراء من تأويلات كثيرة تكاد تحمّل الكلمة عشرين وجها ، أو ثلاثين ، أو أكثر من ذلك ، حتى لقد بلغت طرق هذه القراءات للقراءات العشر فقط تسعمائة وثمانين طريقة.
فلقد كان هذا اجتهادا من القراء ، ولكنه كان إسرافا فى ذلك الاجتهاد ، وإنك لو تتبّعت ما عقّب به الزّمخشرى فى تفسيره على القرّاء لوجدت له الكثير مما ردّه عليهم ولم يقبله منهم. فلقد عقب على ابن عامر ، فى قراءته لقوله تعالى : (وكذلك زيّن للمشركين قتل أولادهم شركاؤهم) (الأنعام : ١٣٧) ، فلقد قرأها ابن عامر (زيّن للمشركين قتل أولادهم شركائهم) برفع «القتل» ، ونصب «الأولاد» ، وجر «الشركاء» ، على إضافة «القتل» ، إلى «الشركاء» والفصل بينهما بغير الظرف.
فقال الزمخشرى : فهذا لو كان فى مكان الضّرورات ـ وهو الشّعر ـ لكان شيئا مردودا ، فكيف به فى الكلام المنثور ، وكيف به فى القرآن المعجز بحسن نظمه وجزالته ، والذى حمله على ذلك أن رأى فى بعض المصاحف «شركائهم» مكتوبا بالياء.
ويعقّب الزمخشرىّ مرة أخرى على أبى عمرو حين يدغم الراء فى اللام فى قوله تعالى : (فيغفر لمن يشاء) (البقرة : ٢٨٤ ، آل عمران : ١٢٩ ، المائدة : ٢٠ و ٤٣ ، الفتح : ١٤) فيقرؤها أبو عمرو : (فيغفلمن يشاء). ويقول الزمخشرى : ومدغم الراء فى اللام لاحن مخطئ خطأ فاحشا ، ورواية عن أبى عمرو مخطئ مرتين ، لأنه يلحن ، وينسب إلى أعلم الناس بالعربية ما يؤذن بجهل عظيم.
وكذلك تتّبع ابن قتيبة القرّاء وأحصى لهم الكثير ، وفى ذلك يقول : وما أقلّ من سلم من هذه الطبقة فى حرفه من الغلط والوهم (١).
ونحن حين نمكن لهذه القراءات أن تعيش نكون كمن يحاول أن يخرج على ما أراده عثمان ، ومعه علىّ من قبل ، ثم الصّحابة ، على وحدة القرآن تلاوة. هذا بعد أن صح لنا أن هذه القراءات اجتهاد ، وأن رسم المصحف ، وإهماله نقطا وشكلا ، جرّ إلى شىء منها.
__________________
(١) تأويل مشكل القرآن (ص : ٤٣).