ثمّ إنّه سبحانه قال ـ وهو في هذا المعنى ـ : (أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ) ، (١) يبيّن أنّ هذه طريقته وسنّته في الخلقة يمزج الحقّ الباطن بالباطل الظاهر ، والحقائق بالأوهام (لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) ، (٢) وإنّ هذه طريقته أيضا في ضرب الأمثال وبيان الأوصاف كما قال : (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ). (٣)
وهاتان الآيتان في مساق ما ورد في الحديث المشهور بين الفريقين عن النبيّ ـ صلىاللهعليهوآله ـ : نحن معاشر الأنبياء نكلّم الناس على قدر عقولهم. (٤)
وأنت خبير بأنّ مثل هذا الكلام إنّما يساق لبيان الكيفيّة دون الكمّيّة ، أي أنّه سبحانه في كلامه أو بلسان أنبيائه إنّما يلقي المعارف والعلوم إلى الناس بعد لبسها وصبغها بكيفيّة تلائم كيفيّة فهمهم ، لا بالتبعيض بأن يلقي بعضا ويكفّ عن بعض كالمدرّس في مقدار ما يقرأه ويعلّمه تلاميذه ، وهو سبحانه مع ذلك قد كلّم الناس بكلّ بيان متصوّر من برهان أو جدل أو خطابة.
ومن هنا يعلم :
أوّلا : أنّ لهذه المعارف مرتبة في حقيقتها لا تنال بالعقل والفكر ، بل لو نيلت
__________________
(١). الرعد (١٣) : ١٧.
(٢). الكهف (١٨) : ٧.
(٣). العنكبوت (٢٩) : ٤٣.
(٤). المحاسن ١ : ١٩٥ ، الحديث : ١٧ ؛ مشكاة الأنوار : ٢٥١ ؛ شرح نهج البلاغة ١٨ : الحديث : ١٨٦.