فإنّما تنال بإدراك دون الإدراك العقلي وعلم غير العلم الفكري.
وثانيا : أنّ هذه الحقائق ليست خارجة مغايرة لهذه الظواهر الملقاة من البيانات المتعارفة والأمثال المضروبة ، بل مثلها فيها كمثل الروح في الأجساد أو كرسول يرسله الملك إلى طوائف مختلفة من رعيّته ويأمره أن يتلبّس بكلّ طائفة منهم بلباس لا ينكرونه ، ويتّسم بهيئة وسمة يعرفونها ، والرسول واحد ، كمجرى قوله سبحانه : (وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ) ، (١) وقد قال سبحانه : (إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ* وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ) ، (٢) يريد سبحانه أنّ للقرآن مرتبة اخرى في محلّ آخر لا تنال بهذه الأفهام والعقول ، ثمّ قال تعالى : (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ* فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ* لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) (٣) فأثبت مسّه ونيله للمطهّرين ، وهو في مرتبة أرفع من أن ينال بالعقل والفكر ، وقد عدّ سبحانه كلّ ظلم وشرك من الرجس ، فهؤلاء المطهّرون رجال أزال الله عن قلوبهم رجس الشرك والريب ، وعن أفعالهم رجس الظلم والمعصية وطهّرهم تطهيرا ، كما أنزل في أهل بيت نبيّه قوله سبحانه : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) ، (٤) وهؤلاء رجال آتاهم الله من علم الأشياء بحقائقها وحقائق ما يكلّم به الناس ويخاطبهم نيلا وراء نيل العقل ، ونحوا غير نحوه ، فنظروا إلى الأشياء على ما هي عليه من المملوكيّة لله والفقر إلى الله والقيام بالله بكشف
__________________
(١). الأنعام (٦) : ٩.
(٢). الزخرف (٤٣) : ٣ و ٤.
(٣). الواقعة (٥٦) : ٧٧ ـ ٧٩.
(٤). الأحزاب (٣٣) : ٣٣.