قوله سبحانه : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ)
هذه هي الهداية الظاهريّة التي ربّما تتحقّق في بعض النفوس كالوميض الافقي ، ثمّ تزول عن قريب ، فإنّ للهداية والضلالة مراتب.
فمنها : ما هو بحسب الظاهر هداية أو ضلالة ، ويلزمه أثره بحسب الغالب لا بحسب الدوام والبتّ ويصاحب هذه الهداية الامور المقارنة للخير غالبا ، كخيرات الأفعال وصالحات الأعمال من عبادات وأخلاق زكيّة ، ويصاحب هذه الضلالة ما يقابل ما يصاحب مقابلها كالشرور وطوالح الأعمال ورذائل الأخلاق.
وهاتان الهداية والضلالة ربما تتخلّفان فتتبدّل إحداهما بالاخرى.
قال تعالى : (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) ، (١) وقال : «إنّ هذا القرآن يهدي إلى صراط مستقيم». (٢)
ومنها : ما هو بحسب الحقيقة هداية أو ضلالة ، ويلزمه أثره لزوما ضروريّا بتّيّا لا ينفكّ عنه البتّة ، والذي يصاحب إحداهما من الأعمال واللوازم لا يلزم أن يكون ما هو في الغالب خير أو صلاح ، أو ما هو بحسب الغالب شرّ أو فساد ، فربّما صادفنا رجلا متّقيا صالحا جيّد العبادة ونقيّ الزهادة ، آل آخر أمره إلى الشقاء ، وربّما وجد شقيّا فاسقا فاسدا لا يلوي في شرّه على شيء انقلب أمره إلى الحسنى.
فالرجل الأوّل سالك من أوّله مسلك الشقاء ، وإن كنّا بحسب ما يلوح لنا نحكم بكونه طريقا من طرق السعادة ، وكذا الرجل الثاني سعيد سالك مسلك السعادة وإن كان بحسب ما نشاهده ونحكم عليه مسلك الشقاء.
__________________
(١). الشورى (٤٢) : ٥٢.
(٢). اشارة إلى الآية : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ)، الاسراء (١٧) : ٩.