(يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ) عن طريق الله (مَنْ آمَنَ) بها ، وتبع من جاء بها ، (تَبْغُونَها عِوَجاً) أي : طالبين لها اعوجاجا ، بأن تلبسوا على الناس ، وتوهموا أن فيها عوجا عن الحق ، بزعمكم أن التوراة لا تنسخ ، وبتغيير صفة الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ، أو بأن تحرشوا بين المسلمين ؛ لتختلف كلمتهم ، ويختل أمر دينهم ، وأنتم شهداء على أنها حق ، وأن الصد عنها ضلال ، أو : وأنتم عدول عند أهل ملتكم ، يثقون بأقوالكم ، ويستشهدونكم فى القضايا ، (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) ؛ فلا بد أن يجازيكم على أعمالكم ، فإنه يمهل ولا يهمل.
كرّر الخطاب والاستفهام مرتين ؛ مبالغة فى التقريع ونفى العذر ، وإشعارا بأن كل واحد من الأمرين مستقبح فى نفسه ، مستقل باستجلاب العذاب. ولمّا كان المنكر عليهم فى الآية الأولى : كفرهم ، وهم يجهرون به ، ختم بقوله : (وَاللهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ) ، ولمّا كان فى هذه الآية : صدهم المؤمنين عن الإسلام ، وكانوا يخفونه ويحتالون فيه ، قال : (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ). قاله البيضاوي.
الإشارة : كل من جحد وجود الخصوصية عند أهلها ، وصد القاصدين للدخول فيها ، استحق هذا العتاب بلا شك ولا ارتياب. والله تعالى أعلم.
ثم حذّر المؤمنين من الاستماع لهم ، فقال :
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ (١٠٠) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٠١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٢))
يقول الحق جل جلاله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) ، الخطاب عام ، والمراد : نفر من الأوس والخزرج ، (إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) ، وهو شاس بن قيس اليهودي ، كان شيخا كبيرا ، وكان عظيم الكفر شديد الضغن على المسلمين ، مرّ بنفر من الأوس والخزرج ، جلوسا يتحدثون ، وكان بينهما عداوة فى الجاهلية ، فغاظه تآلفهم واجتماعهم ، وقال : قد اجتمع ملأ بنى قيلة بهذه البلاد ، فما لنا معهم قرار ، فأمر شابا من اليهود أن يجلس بينهم ويذكّرهم يوم بعاث ـ وهو يوم حرب كان بينهم فى الجاهلية ـ وينشدهم بعض ما قيل فيه ، وكان الظفر فى ذلك اليوم للأوس ، ففعل ، وتنازع القوم وتفاخروا وتغاضبوا ، وقالوا : السلاح السلاح ، واجتمع من القبيلتين خلق عظيم ، فتوجه إليهم رسول صلىاللهعليهوسلم وأصحابه ، فقال : «أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم ، بعد إذ أكرمكم الله بالإسلام ، وقطع به عنكم أمر الجاهلية ، وألّف بينكم؟» فعلموا أنها نزغة من الشيطان وكيد من عدوهم ، فألقوا السّلاح ، واستغفروا ، وعانق بعضهم بعضا ، وانصرفوا مع الرسول ـ صلوات الله عليه وسلامه ـ فنزلت الآية.