ثم قال لهم : (وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ) أي : مشرفين على نار جهنم ، إذ لو أدرككم الموت لوقعتم فى النار ، (فَأَنْقَذَكُمْ) الله (مِنْها) برسوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ. روى أن أعرابيا سمع ابن عباس يقرأ هذه الآية ، فقال الأعرابى : والله ما أنقذهم منها وهو يريد أن يوقعهم فيها ، فقال ابن عباس رضي الله عنه خذوها من غير فقيه. ه. (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ) أي : مثل هذا التبيين (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) إلى الخير ، وتزيدون ثباتا فيه.
الإشارة : المذاهب كلها وقع فيها الاختلاف والتفرق فى الأصول والفروع ، إلا مذاهب الصوفية فكلها متفقة بداية ونهاية ، إذ بدايتهم مجاهدة ، ونهايتهم مشاهدة ، وإلى ذلك أشار فى المباحث ، حيث قال :
مذاهب الناس على اختلاف |
|
ومذهب القوم على ائتلاف |
وإن وقع الاختلاف فى بعض الطرق الموصلة إلى المقصود ، فقد اتفقت فى النهاية ، بخلاف أهل الظاهر ، لا تجدهم يتفقون إلا فى مسائل قليلة ، لأن مذهبهم مبنى على غلبة الظن ، ومذهب القوم مبنى على التحقيق ذوقا وكشفا ، وكذلك ائتلفت أيضا قلوبهم وأرواحهم ، إذ كلهم متخلقون بالشفقة والرأفة والمودة والألفة والصفا ؛ لأنهم دخلوا الجنة ـ أعنى جنة المعارف ـ فتخلقوا بأخلاق أهل الجنة ، قال تعالى : (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ) ، فيقال لهم بعد الفتح : واذكروا نعمة الله عليكم ، إذ كنتم أعداء قبل اتصالكم بالطبيب ، فألف بين قلوبكم ، فأصبحتم بنعمته إخوانا متحابين ، وكنتم على شفا حفرة من نار القطيعة والحجاب (فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها). مثل هذا البيان يوضح الله آياته ، أي : تجلياته ، لعلكم تهتدون إلى مشاهدة ذاته فى أنوار صفاته. والله تعالى أعلم.
ثم أمرهم الحق تعالى بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، ووجه اتصاله بما قبله : أنهم سكتوا حين حرّش بينهم اليهود حتى هموا بالقتال ، ولم يأمرهم أحد بالإمساك عنه ، فحذّرهم الله من نزغته ، وحضّهم على الاجتماع ، وأمرهم بالأمر بالمعروف والنهى عن النكر إذا رأوا شيئا من ذلك ، فقال :
(وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٤))
قلت : (من) : للتبعيض ؛ لأن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر من فروض الكفاية ؛ إذ لا يصلح له كلّ أحد ، أو للبيان ، أي : كونوا أمة تأمرون بالمعروف ، كقوله : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) إلخ ، و (يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر) عطف على الخبر ، من عطف الخاص على العام ؛ للإيذان بفضله.