وظهور براهينه ، عاتبهم على تقدير أن لو صار منهم انقلاب لو مات صلىاللهعليهوسلم أو قتل ، أو على ما صدر من بعض المنافقين وهم ساكتون.
قال أصحاب المغازي : خرج النبي صلىاللهعليهوسلم حتى نزل بالشعب من أحد ، فى سبعمائة رجل ، وأمّر عبد الله بن جبير على الرماة ، وهم خمسون رجلا ، وقال : انضحوا عنا بالنبل ، لا يأتونا من خلفنا ، لا تبرحوا مكانكم ؛ كانت لنا أو علينا ، فإنا لن نزال غالبين ما ثبتّم مكانكم ، فجاءت قريش ، وعلى ميمنتهم خالد بن الوليد ، وعلى ميسرتهم عكرمة ، ومعهم النساء. ثم انتشب القتال فقال عليه الصلاة والسلام : «من يأخذ هذا السيف بحقه»؟ فجاء رجال فمنعهم ، حتى جاء أبو دجانة ، فقال : وما حقه يا رسول الله؟ قال : «تضرب به العدو حتى ينحنى» ، وكان رجلا شجاعا يختال عند الحرب ، فأخذه واعتم بعمامة حمراء ، وجعل يتبختر بين الصفين ، فقال عليه الصلاة والسلام : «إنها لمشية يبغضها الله إلّا فى هذا الموضع».
ثم حمل النبي صلىاللهعليهوسلم وأصحابه على المشركين فهزموهم ، قال الزبير : (فرأيت هندا وصواحبها هاربات مصعدات فى الجبل) ، فلما نظر الرماة إلى القوم قد انكشفوا ، قالوا : الغنيمة الغنيمة فقال لهم بعضهم : لا تتركوا أمر النبي صلىاللهعليهوسلم فلم يلتفتوا ، وانطلق عامتهم ، فلما رأى خالد قلة الرماة ، صاح فى خيله من المشركين ، ثم حمل على أصحاب النبي صلىاللهعليهوسلم من خلفهم ، وقتل عبد الله بن جبير ، واختلط الناس ، فقتل بعضهم بعضا ، ورمى عبد الله بن قمئة الحارثي رسول الله صلىاللهعليهوسلم بحجر ، فكسر أنفه ورباعيته ، وشجّه فى وجهه ، وكسر البيضة (١) على رأسه ، فذبّ عنه مصعب بن عمير ، وكان صاحب الراية ، فقتله ابن قمئة وهو يرى أنه قتل النبي صلىاللهعليهوسلم ، فرجع إلى قومه ، وقال : قد قتلت محمدا ، وصرخ صارخ : ألا إنّ محمدا قد مات. وقيل : إنه الشيطان ، فانكفأ الناس ، وجعل الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ يدعو : «إلىّ عباد الله» ، فانحاز إليه ثلاثون من الصحابة ، وضموه حتى كشفوا عنه المشركين ، وأصيبت يد طلحة بن عبيد الله فيبست ، حين وقى بها النبي صلىاللهعليهوسلم ، وأصيبت عين قتادة بن النعمان ، حتى وقعت على وجنتيه ، فردها النبي صلىاللهعليهوسلم مكانها ، فعادت أحسن مما كانت.
وفشا فى الناس أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم مات ـ فقال بعض المسلمين : ليت ابن أبى يأخذ لنا أمانا من أبى سفيان. وقال بعض المنافقين : لو كان نبيا ما قتل ، ارجعوا إلى دينكم الأول. فقال أنس بن النضر ـ عمّ أنس بن مالك : (إن كان قد قتل محمد فإنّ رب محمد لا يموت ، وما تصنعون بالحياة بعده؟ فقاتلوا على ما قاتل عليه ، حتى تموتوا على ما مات عليه). ثم قال : اللهم إنى أعتذر إليك مما صنع هؤلاء ـ يعنى المسلمين ـ وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء ـ يعنى الكفار ـ ، ثم شدّ سيفه وقاتل حتى قتل ، رحمة الله عليه.
__________________
(١) البيضة : الخوذة.