الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) ؛ اليهود (وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) ؛ كفار مكة ، (أَذىً كَثِيراً) كقولهم : إن الله فقير ، وهجاء الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ ، والطعن فى الدين ، وإغراء الكفرة على المسلمين ، أو غير ذلك من الأذى. أعلمهم بذلك قبل وقوعه ، ليتأهبوا للصبر والاحتمال ، حتى لا يروعهم نزولها حين الإنزال. (وَإِنْ تَصْبِرُوا) على ذلك ، (وَتَتَّقُوا) الله فيما أمركم به ، (فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) أي : من معزومات الأمور التي يجب العزم عليها ، أو مما عزم الله على فعلها ، وأوجبه على عباده. والله تعالى أعلم.
الإشارة : كل من دخل فى طريق الخصوص بالصدق والعزم على الوصول ، لا بد أن يبتلى ويختبر فى ماله ونفسه ، ليظهر صدقه فى طلبه ، ولا بد أن يسمع من الناس أذى كثيرا ، فإن صبر ظفر ، وإن رجع خسر ، وهذه سنة الله فى عباده : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ) ، قال الورتجبي : (لتبلون فى أموالكم) ؛ بجمعها ومنعها والتقصير فى حقوق الله فيها ، (وأنفسكم) ؛ باتباع شهواتها ، وترك رياضتها ، وملازمتها أسباب الدنيا ، وخلوها من النظر فى أمر الميعاد ، وقيل : (لتبلون فى أموالكم) ؛ بالاشتغال بها أخذا وإعطاء. ه.
ثم عاتب الحقّ تعالى اليهود ، ووبّخهم على كتمان الحق وإظهار الباطل ، فقال :
(وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ (١٨٧))
قلت : الضمير فى (نبذوه) : يعود على الكتاب ، أو الميثاق.
يقول الحق جل جلاله : (وَ) اذكر (إِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) وهم اليهود ، أخذ عليهم العهد ليبينن للناس ما فى كتابهم من صفة النبي صلىاللهعليهوسلم ولا يكتمونه ، فنبذوا ذلك العهد أو الكتاب (وَراءَ ظُهُورِهِمْ) ؛ فكتموا صفته ـ عليه الصلاة والسلام ـ خوفا من زوال رئاستهم ، (وَاشْتَرَوْا) بذلك العهد ، أي : استبدلوا به (ثَمَناً قَلِيلاً) من حطام الدنيا ، وما كانوا يأخذونه من سفلتهم ، (فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ) ، وهى تجر ذيلها على من كتم علما سئل عنه ، قال عليه الصلاة والسلام : «من كتم علما عن أهله ألجم بلجام من نار». وعن على رضي الله عنه : (ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلّموا). وقال محمد بن كعب : (لا يحل للعالم أن يسكت على علمه ، ولا الجاهل أن يسكت على جهله).