وبعد ذلك يحاسب العبد نفسه على ما اشترطه وعاهد عليه ، فإن وجد نفسه قد وفّى بما عاهد عليه الله يحمد الله ، وإن وجد نفسه قد حل عقد المشارطة ونقض عهد المراقبة ، عاقب النفس عقابا شديدا بزجرها عن العودة إلى مثل ذلك ، ثم عاد إلى المشارطة والمرابطة ، وحافظ على المراقبة ، ثم اختبر بالمحاسبة ، وهكذا يكون إلى أن يلقى الله تعالى. انتهى كلامه ، وهو مقتبس من الإحياء. والله تعالى أعلم.
ثم شرع تعالى فى الكلام على حفظ الأموال ، وبدأ بأموال اليتامى ، اعتناء بهم لضعفهم ، فقال :
(وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً (٢))
قلت : اليتيم : من فقد أباه ، ولا يقال فيه اليتيم عرفا إلا قبل البلوغ ، وهو هنا مجاز ، أي : من كان يتيما ، والحوب : الإثم ، ويقال فيه : حوبا ، بالضم والفتح ، مع الواو والألف ، مصدر حاب حوبا وحوبا وحابا.
يقول الحق جل جلاله : (وَآتُوا) أي : أعطوا (الْيَتامى أَمْوالَهُمْ) إذا بلغوا ، وأنس منهم الرشد ، وسمّاهم يتامى بعد البلوغ اتساعا ؛ لقرب عهدهم بالصغر ، حثا على أن يدفع إليهم أموالهم أول بلوغهم ، قبل أن يزول عنهم هذا الاسم إذا أنس فيهم الرشد ، ويدل على هذا ما قيل فى سبب نزول الآية ، وهو أن رجلا من غطفان كان معه مال كثير لابن أخ له ، فلما بلغ طلب مال أبيه ، فمنعه ، فنزلت الآية ، فلما سمعها العم قال : أطعنا الله ورسوله ، ونعوذ بالله من الحوب الكبير. وقيل : إن العرب كانت لا تورّث الصغار مع الكبار ، فأمروا أن يورثوهم ، وعلى هذا يكون اليتيم على حقيقته ، فعلى الأول : الخطاب للأوصياء ، وعلى الثاني : للعرب التي كانت لا تورث الصغار.
ثم قال : (وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ) أي : لا تتبدلوا الحرام من أموالهم بالحلال من أموالكم ، أو : لا تأخذوا الرفيع من أموالهم وتعطوا الخبيث مكانها من أموالكم. كان بعضهم يبدل الشاة السمينة من مال اليتيم بالمهزولة من ماله ، والدرهم الطيب بالزائف. (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ) مضموما (إِلى أَمْوالِكُمْ) فتنفقونها معا ، مع أن اليتيم لا يأكل كالكبير ، إلا إذا كان المنفق قدّر أكله ، أو لمصلحة. (إِنَّهُ) أي : الأكل ، (كانَ حُوباً كَبِيراً) أي : إثما عظيما.
الإشارة : أمر الحق جل جلاله أغنياء القلوب ، وهم أكابر الأولياء الراسخون فى علم الغيوب ، أن يمنحوا من تعلق بهم من الفقراء والضعفاء ، من الغنى بالله الذي منحهم الله ، حتى لا يلتفتوا إلى سواه ، وأن يقبلوا كل من أتى إليهم من العباد ، سواء كان من أهل المحبة والوداد ، أو من أهل المخالفة والعناد ، ولا يتبدلوا الخبيث بالطيب ، بحيث